أسعد أبو خليل
بين الانتصاريّة والانهزاميّة (1)
ليست معركة العرب مع إسرائيل معركة عاديّة. هي ليست حرباً وليست صراعاً وليست خلافاً عرَضيّاً. أحسنَ أنطون سعادة مُبكراً في تصنيف الصراع على أنّه صراع الوجود، لا الحدود، أو كما وصفه عبد الناصر في آخر أيّامه: إمّا أن نكون نحن أو لا نكون (وقال ذلك في سياق رفْضه للتسويات المنفردة وإصراره على ربْط مسألة فلسطين بتحرير الأرض المصريّة -أي عكس ما ترمي إليه الأنظمة الخليجيّة عبر تسريبات مشبوهة لعبد الناصر لتمهيد الطريق للتطبيع المجّاني مع إسرائيل).
تَرواحَ التعاطي العربي مع إسرائيل بين طرف الانتصاريّة الفائقة وروح الانهزاميّة المُحبِطة التي سادَت (عن قصد) بعد حرب 1967 لضمان الاستسلام العربي واستحصال إهمال فلسطين بالكامل. هناك دُور نشر عربيّة (انطلقت من بيروت) لنشْر ثقافة الهزيمة بين العرب. كان ردّ فعل عبد الناصر بعد هزيمة 1967 غير ما كانوا يتوقّعون (تماماً مثل 1956 عندما ظنّوا أنّ العدوان الثلاثي الكبير سيؤدّي إلى تنحّي عبد الناصر والعودة إلى زمن الطاعة الملكيّة في مصر). لم يستسلم عبد الناصر، وهذا ما فجَّر أحقاد الصهاينة، عرباً وغرباً.
حكاية أمين الحافظ باتت شهيرة. كان في عام 1964 يُعلن أنّ حزبه أعدَّ خطة مُحكمة لتحرير فلسطين. ولم تكن الجملة عرَضيّة أبداً. كان يكرّرها في مقابلات وتصريحات وخُطب منشورة. عدد الساعات يتغيّر بين تصريح وآخر. عبد الناصر لم يكن ينجرّ أبداً لهذه العواطف. أحمد الشقيري نفى أن يكون قد هدَّدَ برَمْي اليهود في البحر. وفي هذا هو مُحقّ (مع أنّه آمن بأهميّة الخطبة البليغة على حساب العمل والنشاط العسكري). لم ترِد تلك العبارة أبداً في تصريحاته ومقابلاته الكثيرة. هذه اخترعها اللّوبي الإسرائيلي تماماً كما يخترعون عن نيّات إيرانيّة اليوم.
البروباغاندا الإسرائيليّة لا تتورّع عن اختراع تصريحات وبيانات كاذبة وتنسبها إلى أعدائها. في عام 1970، قابلَت الصحافيّة الإيطاليّة الصهيونيّة، أوريانا فالاتشي (وكانت شهيرة في زمانها)، جورج حبش (وجلوسه معها كان خطأً، لكنّ الكثير من الزعماء والحكام العرب يجهلون هويّة جلسائهم من الإعلاميّين والإعلاميّات الغربيّات). نشرت فالاتشي المقابلة في مجلّة «لايف»، وكانت أوّل إطلالة لحبش في الإعلام الغربي بعد انتشار اسمه نتيجة لأعمال خطف الطائرات. زعمت أنّ حبش أخبرها أنّه يريد قتْل أكبر عدد من اليهود في العالم.
وكلّ من تابع تصريحات حبش وكلامه (في العلن أو في الجلسات الخاصّة) يعلم أنّه لم يكن يتحدّث بهذا المنطق أبداً. نحلت له كلاماً يضرّ بالقضيّة في الغرب. وفي آخر سنواتها، اعترفت بتعصّبها العنصري والصهيوني من دون أي تحفّظ. أحياناً، يمنح بعض الرؤساء والحكام والزعماء هدايا للبروباغاندا الصهيونيّة، مثل الحديث عن الهولوكوست، كما فعل أحمدي نجاد (الذي بات في صفّ 14 آذار الإيراني). لم يجد اللّوبي الصهيوني أيّ كلام ضدّ اليهود في خطب عبد الناصر وتصريحاته. محّصوا ودقّقوا كثيراً قبل العثور على مقابلة يتيمة مع صحافي هندي استعملوها للقول إنّ عبد الناصر نازي (ذكر فيها عرَضاً «بروتوكولات حكّام صهيون» المزيّفة وكان أخوه شوقي قد روّج لها).
فعلوا الشيء نفسه مع عرفات ومع حُكّام إيران ومع نصرالله وقادة «حماس». يومها، كان هناك مصداقيّة في الغرب للدعاية الإسرائيليّة. اليوم، التشكيك في بروباغاندا إسرائيل وخطابها يرِد من أصدقائها كما يرِد من أعدائها. فتّشتُ في الأرشيف العربي عن عبارة رمْي اليهود في البحر فلم أعثر إلّا على تصريح لحسن البنّا في مجلّة «المصوّر» المصريّة في عام 1948.
العدوّ يستثمر في العثور على أسوأ ما في الخطاب العربي كي يستعمله ضدّنا. نحن لم نفعل الشيء نفسه، خصوصاً في السنوات والعقود التي كان فيها العدوّ شديد الحرص على خطابه الموجّه إلى الغرب. الآن فلت العقال. أصبح خطاب الإبادة علنيّاً لأنّ إسرائيل تعلم أنّها مهما نطقت وصاحت وهدّدت بالإبادات فإنّ أميركا ظهير لها. إسرائيل لم تعد تكترث. تعلم أنّ العالم العربي يكرهها وأنّ شباب العالم يكرهونها. في أميركا لم يعد في يدها إلّا قمْع حريّة التعبير وتحويل الجامعات إلى ثكنات.
في المراحل الأولى من الصراع مع إسرائيل سادت الانتصاريّة الفائقة في كلامنا عن إٍسرائيل. إنّ النكبة كانت في جانب منها نتيجة الانتصاريّة الزائفة التي عمّمها كلّ الحكام العرب آنذاك (وكان رياض الصلح أبرزهم لأنّه، قبل أشهر فقط من النكبة، تحدّث عن خطط سرّية لإنقاذ فلسطين. المؤرّخون سيحكمون على براءة هذه التصريحات بعد أعوام). لم يكن الشعب العربي يأخذ العدوّ الصهيوني على محمل الجِدّ لأنّ كلام حتميّة النصر سادَ. اقرأوا أشعار المرحلة وابدأوا بقصيدة «سائل العلياء عنّا والزمانَ» للأخطل الصغير (أراد فريد الأطرش تلحينها لأم كلثوم، التي قاومت للنهاية إنشاد أيّ لحن له).
إنّ النكبة، في بُعدٍ لها، كانت مصيبة لأنّها تناقضت مع جوّ الانتصاريّة الذي كان سائداً قبلها. لم يكن هناك توقّع بأن ينتصر العدوّ وبهذه السهولة، وأن يستطيع أن يسيطر على كيان في أبعد من حدود الدولة المرسومة في قرار التقسيم
هناك أسباب عدة لتعميم الانتصاريّة في مواجهة الخطر الصهيوني الداهم:
أوّلاً، كان هناك المشبوهون المُمَوَّلون من قِبل الحركة الصهيونيّة. هناك وثائق صهيونيّة نُشرت عن تلك المرحلة وسيكون هناك المزيد. اللّافت أنّ أموالاً طائلة أُنفقت للتأثير ليس فقط على الساسة (الكثير من لبنان كما يرد في «المتاهة اللّبنانيّة») بل للتأثير على الصحافة العربيّة في المشرق وفي المهاجر الأميركيّة. أعارت الصهيونية بالغ الاهتمام للتأثير على الرأي العام العربي. هنا فشلت فشلاً ذريعاً لأنّ الرأي العام العربي (آنذاك) كان قاطعاً في رفْضه للصهيونية. لكن تعميم فكر النصر المحتوم من قِبل أدوات الصهيونية كان مفيداً لأنّه خفّف من الشعور بالخطر الداهم. ظنّ كثيرون أنْ لا إمكانيّة لتحقيق النصر من قِبل الصهاينة.
ثانياً، كان هناك مَن عمّمَ فكر الانتصاريّة الفائقة بسبب الغباء أو الجهل، أي عدم تقدير الموقف بصورة علميّة مع الأخذ في الحسبان موازين القوى بين الطرفَين. يروي موسى العلمي في مذكّراته عن لقائه، مع وفد فلسطيني، مع شكري القوّتلي في 1948، وكيف أنّ الأخير طمأن الوفد الفلسطيني الذي كان يسعى إلى التجهيز والتسليح بأنّ حدّاداً دمشقيّاً ذا أيد ذهبيّة توصّلَ إلى اكتشاف القنبلة الذريّة في دكّانه. عاد الوفد على أعقابه خائباً. هل كان القوّتلي عميلاً أو غبيّاً جاهلاً أم الاثنَين معاً؟ مهما كان الجواب فإنّ النتيجة واحدة. لم يكن هناك من تقدير جدّي لخطورة القوّة اليهودية في فلسطين.
ثالثاً، بالغ الكثيرون في العالم العربي من فرص تحضير قوّة عربيّة من المتطوّعين ومن الجيوش العربيّة. كان يجب الإدراك أنّ الجيوش عاجزة بالكامل لأنّ الحكومات كانت خاضعة للحُكم البريطاني المتحالف مع الصهيونيّة والمُلتزم بتطبيق سخيّ ومطّاط لوعد بلفور (وصياغة الوعد كانت مقصودة في إبهامها كي تحقّق للحركة الصهيونيّة ما تريده وكي تستولي على ما تشاء من أرض فلسطين).
لكنّ الصحافيّين العرب آنذاك، لمن يعود للصحافة («النهار» أو «المصوّر» المصريّة، في حالتي)، حاولوا مساءلة الحُكّام العرب في قممهم الصغيرة عن خطط الدفاع عن فلسطين. ألحّوا عليهم بتطمين الرأي العام. «المصوّر» في عام 1948 نقلت عن رياض الصلح كلاماً عن خطط مُحكمة سرّية ستُدهش العالم (كما أدهش أمين الجميّل العالم في 1982-1984، قبل الانقلاب عليه).
ولو اعترفت الحكومات العربيّة بعجزها العسكري وارتهانها السياسي لكان الجمهور العربي قد تحرّك من تلقاء نفسه كما تحرّك في الستينيّات عند انطلاق المقاومة الفلسطينيّة. كانت مخيّمات التدريب العسكريّة في لبنان في الستينيّات والسبعينيّات تعجّ بالمتطوّعين العرب من مختلف الجنسيّات. هشام شرابي ذكر عن حملة تطوّع للجهاد في فلسطين عشيّة النكبة في الجامعة الأميركيّة في بيروت. المئات وقّعوا على استعدادهم كتابيّاً: عرائض مُدبّجة. وفي اليوم الموعود، لم يتقدّم من المتطوّعين إلّا ثلاثة.
إنّ النكبة، في بُعدٍ لها، كانت مصيبة لأنّها تناقضت مع جوّ الانتصاريّة الذي كان سائداً قبلها. لم يكن هناك توقّع بأن ينتصر العدوّ وبهذه السهولة، وأن يستطيع أن يسيطر على كيان في أبعد من حدود الدولة المرسومة في قرار التقسيم (غير المُلزم لأنّه صدر عن الجمعيّة العامّة. إسرائيل تضرب بعرض الحائط قرارات مجلس الأمن فما بالك بقرارات الجمعية العامّة، لكنّها في حينه -وبدعم غربي- زعمت أنّ قرار الجمعية العامة هو وثيقة ولادتها بحسب لغة أبا إيبان).
وهزيمة 1967 كانت فاجعة ونكبة لنا لأنّنا كنّا نتوقّع النصر. الخُطب التي سبقتها (بما فيها خطبة في أيّار لأحمد الشقيري) امتازت بالانتصاريّة الفائقة. والحُكم المصري الذي كان حريصاً جدّاً في خطابه عن الصراع مع إسرائيل انجرَّ فجأة مع الجوّ الحماسي. إنّ المبالغات والأكاذيب التي طبعت الإعلام النصري بعد الحرب حتى خطاب التنحّي كانت تجاوباً مع توقّعات خياليّة غير واقعيّة للجماهير. لو أنّ الجماهير كانت مُدركة لحقيقة الجيش المصري لَما اندفعت وطالبت بالحرب الكبرى.
ثم إنّ إسرائيل تحسنُ، في مجال الحرب النفسيّة، التقليلَ من نسبة قوّتها والكذب في المبالغة في تقدير قوّة أعدائها. هي التي قالت إنّ الجيش العراقي الضعيف زمن صدّام كان رابع جيش في العالم. وقالت إنّ قوات حزب الله هي أقوى من الجيوش العربيّة (القول ليس خطأً من حيث الاندفاع والقدرة القتاليّة، ولكنْ للجيوش طائرات ودبّابات وسفن حربيّة لا يمتلكها الحزب).
إسرائيل تُمعِن في مبالغة تصوير ضعفها وقوّة أعدائها لسببَين: هي تريد الظهور بمظهر الحمل الوديع أمام الغرب؛ لأنّ ذلك جلب لها المزيد من التعاطف، والمزيد من السلاح عبر السنوات. قبل حرب 1967 (حسب ما يرد في كتاب ويليام كوانت «مسيرة السلام»، خدعت إسرائيل أميركا بالنسبة إلى قوّتها بالنسبة إلى العرب. لم يكن هناك شكّ عند أجهزة الاستخبارات الأميركيّة حول قوّة إسرائيل مقابل أيّ تكتل عسكري عربي، وليس جيشاً واحداً فقط). والسبب الثاني أنّ إسرائيل تخدع شعبها (لتنالَ قتالاً وجوديّاً شرساً كما حصل في حرب 1967) وتخدع أعداءها كي لا يحسبوا لها حساباً تستحقّه.
منظمة التحرير الفلسطينيّة كانت أسوأ تجربة لحركة تحرير أو مقاومة في تقديرها للخصم. وكانت هناك أجنحة ومدارس مختلفة في منظمة التحرير. محمود عبّاس كان من أصحاب نظريّة أنّ المقاومة العسكريّة غير ضرورية لأنّ المجتمع الإسرائيلي متآكل من الداخل وهو (دائماً) على شفير الانهيار أو الحرب الأهليّة (كان عبّاس ينظر إلى نفسه -وينظر إليه ياسر عرفات- كخبير في الشأن الإسرائيلي).
(يتبع)
ملاحظة: صحّح لي أصدقاء ما ورد في سياق المقالة السابقة. أنا أخطأتُ في قولي إنه ليس من نساء في الهيئات القياديّة العليا في الحزب. قيل لي إنّ هناك نساءً.