بقلم عصام الحلبي
في الوقت الذي يعيش فيه قطاع غزة واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية والنكبات في تاريخه وأفظع المجازر، في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر والتدمير الشامل للبنية التحتية، أعلنت الولايات المتحدة عن إطلاق ما يُسمى بـ”مكتب الإغاثة وإعادة الإعمار لغزة – GRRO”، تحت غطاء إنساني منسق مع شركاء دوليين. لكن خلف هذا الإعلان الإغاثي، تتوارى نوايا سياسية عميقة ومقلقة، تمسّ جوهر القضية الفلسطينية وتهدد الأطر التمثيلية الرسمية للشعب الفلسطيني، وعلى رأسها السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير.
ما هو GRRO؟
يُقدم GRRO (Gaza Relief and Reconstruction Office) كجهاز ميداني أميركي يُعنى بتنسيق توزيع المساعدات وإعادة إعمار القطاع. يتبع للوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، ويعمل بالتعاون مع منظمات دولية مثل برنامج الغذاء العالمي (WFP)، وبعض المنظمات المحلية التي يتم انتقاؤها بناءً على معايير سياسية واضحة.
الهدف المعلن هو ضمان وصول المساعدات إلى المدنيين دون “تسربها” إلى جهات تعتبرها واشنطن “إرهابية”، في إشارة إلى حماس. لكن هذا الهدف الإنساني يخفي خلفه أجندة أخطر.
البعد السياسي: أكثر من مجرد مساعدات
1. بديل إداري مرن:
تعمل GRRO ضمن خطة متكاملة لإعادة صياغة الواقع الإداري في غزة. فهي لا تنسق مع الحكومة الفلسطينية أو الأونروا، بل تعمل ككيان مستقل له قواعد بياناته، ونقاط توزيعه، وشركاؤه المحليون الجدد. بذلك، يتم إنشاء إدارة ظل غير معلنة قد تتحول مع الوقت إلى واقع بديل عن السلطة الوطنية.
2. تطويع المجتمع المدني:
عبر التمويل المشروط، تُجبر منظمات محلية على الدخول في آلية GRRO أو الخروج من معادلة الدعم الدولي. هذا يعزز نشوء شبكة علاقات ومصالح تدين بالولاء لهذا الجهاز الجديد، بعيدًا عن البنى الوطنية والتمثيلية.
️ المخاطر على السلطة ومنظمة التحرير
* إضعاف السلطة تدريجيًا:
حين تُدار المساعدات خارج الإطار الرسمي الفلسطيني، يتم تجريد السلطة من وظيفتها الأساسية في إدارة الحياة العامة.
ومع الوقت، تتحول السلطة إلى كيان رمزي بلا فعالية ميدانية، وتُدفع نحو العزلة والفراغ التدريجي.
* ضرب منظمة التحرير كممثل شرعي:
تأسيس GRRO دون المرور عبر مؤسسات منظمة التحرير يعني تجاوزًا متعمدًا للمرجعية الوطنية.
هذا يشكل جزءًا من مشروع قديم – جديد يهدف إلى خلق أجسام بديلة أكثر مرونة واستعدادًا للتعامل مع المشروع الأميركي الإسرائيلي، بعيدًا عن الرواية الفلسطينية الجامعة.
GRRO كأداة لإعادة إنتاج “الحاكم المدني”
يشبّه بعض المراقبين هذا المشروع بتجربة الحاكم المدني الأميركي في العراق بعد 2003، أو بتجربة “الإدارة المدنية” الإسرائيلية في الضفة الغربية. في كلتا الحالتين، تُستخدم المساعدات الإنسانية كوسيلة لفرض واقع سياسي، يتم من خلاله تفكيك الهياكل الوطنية وإعادة تركيبها على أسس تابعة وضعيفة.
أخطر ما في الأمر: فصل غزة عن المسار الوطني
GRRO لا يساهم فقط في تجويف السلطة، بل يعمل فعليًا على تثبيت الانفصال الجغرافي والسياسي بين غزة والضفة.
المشروع يبدو متماشيًا مع منطق “السلام الاقتصادي” الإسرائيلي – الأميركي، حيث يتم التعامل مع الفلسطيني كحالة إنسانية لا سياسية، ومحو جوهر القضية المرتبط بالتحرر والعودة والاستقلال.
مقاومة التطويع تحت غطاء الإغاثة
إن GRRO، وإن حمل اسمًا إنسانيًا، لا يمكن فصله عن السياق السياسي العام للمحاولات المتكررة لتفكيك وحدة النظام السياسي الفلسطيني، وتحويل القضية من صراع تحرري إلى مجرد “أزمة إنسانية قابلة للإدارة”. وهذا يستوجب من جميع القوى الفلسطينية – مهما تباينت توجهاتها – رفض هذا المسار والتمسك بالمرجعيات الوطنية، وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية، كإطارين تمثيليين لا بديل عنهما في معركة التحرير والكرامة.