آخر الأخبار

عامر داود… حين يرسم اللاجئ وجه الوطن بألوان المنفى

eb147426-457e-481a-b564-44888970e797

️ تحقيق: عصام الحلبي

“الفن المعاصر منحني المساحة الحرة التي كنت أبحث عنها طويلًا” — عامر داود

من قلب المخيم، حيث تنكمش الحياة بين الخيام والحنين، إلى أروقة المتاحف الفرنسية الواسعة، التي يضجّ فيها الضوء والنظر، تمتدّ رحلة الفنان الفلسطيني عامر داود كخطّ ملون فوق خريطة الجرح الفلسطيني. من القدس، المدينة التي وُلد فيها على ضوء النكبة والنكسة، إلى سوريا فلبنان، ثمّ إلى منفاه الاختياري في جنوب فرنسا، ظلّ داود يحمل في حقيبته شيئًا أثقل من الملابس: هوية لا تنكسر، وذاكرة لا تصدأ.

فنان، مناضل، ونحات يعيش في تبعثر الجغرافيا، لكنه ينسج على قماشة لوحاته الوطن الذي لم يغادر قلبه لحظة.

من هو عامر داود؟

عامر داود ليس مجرد فنان تشكيلي، بل هو حارس للذاكرة البصرية الفلسطينية. وُلد في مدينة القدس قبل أن تُجبر عائلته على الرحيل عنها قسرًا، فعاش طفولته لاجئًا في سوريا، وشبَّ على فكرة أن المخيمات ليست سوى محطات انتظار طويلة نحو وطن مسلوب.
لم يركن داود إلى الحزن، بل جعله رافعةً للإبداع. درس الفنون الجميلة في بيروت، في خضم نضاله ضمن صفوف الثورة الفلسطينية، ليتحوّل الفن لاحقًا إلى وسيلة نضال بصري، تسرد وجع المخيم والمنفى، وتفتح كوّة للأمل في جدار القهر.

الفن كمنفى آخر… أو وطن بديل

في حديثه الهاتفي معنا، يؤكد داود أن الفن لم يكن ترفًا ولا تلهّيًا، بل فعل مقاومة.

“الرسم كان طريقتي لمقاومة القمع وتوثيق الحياة اليومية في المخيم. كان صوتي حين كنت صامتًا، وذاكرتي حين كنت أتهجى ملامح الوطن الغائب”، يقول داود.

أعماله الأولى في سوريا اتسمت بالتجريد الحزين، وألوان قاتمة تعكس الخوف والقلق. لكن بعد استقراره في فرنسا، تغيّر شيءٌ ما. ربما هو الضوء الفرنسي، أو ربما هدوء المدن الصغيرة في الجنوب، جعله يعيد تركيب ذاته على نحو أكثر هدوءًا وتأملًا.

“أصبحت أعمالي أكثر صفاءً، لكنها لم تفقد توتر اللون. أنا لا أبحث عن الجمال المريح، بل عن الصدمة الهادئة”، يضيف.

من سجون المخابرات إلى صالات العرض

لم تكن مسيرته مفروشة بالريش. اعتُقل في سوريا، ودفع ثمن مواقفه، وعاش تجربة قاسية، وخرج منها أشد إيمانًا أن الفن يمكن أن يكون شهادة حيّة على الظلم.

ولأن الفن لا يكذب، كانت حياة داود مادةً لفيلم وثائقي عالمي بعنوان “قصة حب سورية” للمخرج البريطاني شون ماك أليستر، الذي رافقه بكاميراه في رحلة الألم والحب والمنفى. نال الفيلم جائزة مهرجان برلين السينمائي عام 2015، وفتح نافذة جديدة أمام داود ليعرّف العالم إلى قصته.

كما تناولته صحف فرنسية مرموقة مثل لوموند ولا ديبيش، وقدّمت أعماله في نقد بصري اعتبره نقاد فرنسيون “صوت لاجئ يتكلم بالألوان”.

المعارض… من لوتِرِك إلى اللوفر

رغم محدودية الدعم، نجح داود في أن يكون حاضرًا في معارض أوروبية وعربية عدة، منها:

ألبـي (فرنسا) – أبريل 2014

لوترك – مكتب السياحة – أكتوبر 2015

مشروع ART BOX – بازل – يونيو 2017

معرض فردي مزدوج في بيروت ودمشق (2016–2018)

معرض Art Shopping في قاعة Carrousel du Louvre – باريس – أكتوبر 2017

ARTBOX PROJECT – أسبوع الفن في نيويورك – مارس 2018

حاليًا تُعرض أعماله في صالة Espace Drouot في باريس، وهي محطة يراها داود اعترافًا ناعمًا بفنه من جمهور لا يعرف فلسطين إلا عبر الدم والنشرات.

أدواته: حوار بين المادة والروح

لا يتبع داود مدرسة فنية واحدة، بل يفضّل التجريب والمزج بين الخبرة والتعليم والمزاج. يستخدم الأكريليك كلونٍ حرّ ومشاغب، ويسكن عالم النحت بخامات متعددة: الخشب، الزجاج، الرمل، الحديد، والمعادن. “أحب أن أسمع صوت المطرقة على الحديد… إنه يشبه دق القلب”، يهمس.

التحوّل الفني بعد اللجوء

بحسب قراءة نقدية نُشرت في “عربي بوست”، فإن أعمال داود قبل 2015 كانت داكنة ومثقلة بالرموز، أما بعد استقراره في فرنسا، فقد انتقل إلى أعمال أكثر سريالية وتفكيكًا، تكثر فيها الألوان الزاهية والدوائر الرمزية التي تمثّل “حدقة العين” — أي طريقته لرؤية العالم.

هذا التحوّل الفني لم يكن شكليًا فحسب، بل كان تحوّلًا داخليًا: من إنسان محاصر بالخوف إلى فنان يرى العالم من زاوية أكثر تأملًا وثقة.
ماذا يريد عامر داود؟
عامر داود ليس طوباويًا، لكنه مؤمن بالأمل كأداة فنية.
“ما يحرّكني هو الحنين، والقلق الوجودي، والتمسك بالحلم. أريد أن أعود. أريد أن أعيش يومًا في وطن فلسطيني مستقل، وعاصمته القدس الشريف”.

بالنسبة له، لا تُقاس قيمة الفن بكمّ المعارض أو المبيعات، بل بقدرته على أن يوقظ ذاكرة شعب، ويزرع في الآخرين سؤالًا حارقًا: لماذا لا يزال الفلسطيني لاجئًا؟.

عامر داود هو تجسيد حيّ لعبارة: المنفى لا يصنع فنانًا، لكنه يضعه أمام حقيقته.
في ريشته، شيء من الحنين الموجع، وفي منحوتاته شيء من الجلد العاري للذاكرة. لا يهم من أي بلد تنظر إلى أعماله، ستجد دومًا فيها وجهًا يشبهك، ودمعةً تعرفها.

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة