آخر الأخبار

بين السّطور

1

محمد خالد

«ماذا يعني الشرق الأوسط الكبير؟ إنّهم يطلقون على منطقة غرب آسيا اسم الشرق الأوسط؛ الشرق الأوسط الكبير، يعني المنطقة الممتدّة من حدود باكستان وحتّى البحر الأبيض المتوّسط؛ أي إنّ تمام بلدان هذه المنطقة تشكّل الشرق الأوسط. وأميركا قد وضعت خطّة عامّة لتسيطر على هذه البلدان كلّها وفق محوريّة إسرائيل؛ هذا هو معنى الشرق الأوسط الكبير» ـــــــ من كلمة للسّيد علي الخامنئي في كانون الثاني 2018

عندما أعلن ترامب، بطريقته الاستعراضية في الكلام والكتابة، وقفاً لإطلاق النار بين إيران والعدوّ الصهيونيّ، كانت إيران ما تزال في خضمّ وعدها الصادق، لتكون صاحبة الطّلقة الأخيرة، بضرب «الأسد الصاعد» في البئر الذي يحتلّه (بئر السّبع). لم تكن الحرب التي استمرّت نحو أسبوعين إلا جولة جديدة من المفاوضات، باستخدام السّلاح بدلاً عن الحوار، لكن هدفها لم يكن تحريك القضيّة التي يجري التفاوض عليها، أي البرنامج النووي السّلمي، بل في القضاء على المفاوض الإيراني، أي نظام الجمهورية الإسلاميّة في إيران.

لم تنجح الضربات الأولى للعدو الصهيوني، التي ترافقت مع خطاب وجّهه نتنياهو إلى الشعب الإيراني، للانتفاض على نظام بلاده، في أن تحقّق ما كان مخطّطاً له. على العكس، جاء اصطفاف المعارضين خلف راية الجمهورية الإسلامية بشكل مذهل، كأنه ترجمة للكلمات التي وجّهها القائد الأعلى، السيد علي الخامنئي، خلال أيام الحرب، وحملت في طيّاتها خطاباً قوميّاً بامتياز، من قبيل «الأمّة الإيرانيّة» و«الشعب الإيراني العزيز».

انحدر الهدف الصهيوني المعلَن من إسقاط النظام إلى القضاء على المشروع النووي، ثم تأخيره لسنوات، وصولاً للقضاء على القدرات الصاروخية، ولم يتحقّق أي منها، ومعها انتقل كلام ترامب من استسلام غير مشروط إلى أنّه قد يتواصل مع الإيرانيين خلال أيام لاستكمال المفاوضات. راهن الإيرانيون على عاملَين: الضربات الشديدة في عمق الكيان والوقت. وبدت الإستراتيجية العسكريّة مخطّطة للذهاب نحو حرب استنزاف، تخيف الأميركيين أكثر من الصهاينة، ما يفسّر طلب العدو وقف إطلاق النّار، حتى قبل الضربة الأميركية للمنشآت النووية في إيران.

التدخّل الأميركي لم يكن إعلاناً للحرب، بل على شكل مهمّة، أراد فيها التاجر ترامب الوقوف على مسافة واحدة من داعميه الذين يرفضون الانخراط في حرب طويلة ومكلفة، وخصومه في الداخل الأميركي من تيار الدولة العميقة، التوّاقين إلى الحرب أكثر من نتنياهو نفسه. على الجهة المقابلة، كانت رسالة إيران إلى أميركا باستهداف قاعدة العديد (القيادة المركزية في الشرق الأوسط) واضحة وضمن سقف مرتفع: إنّها البداية فقط، وقادرون على تدميرها هي وغيرها من القواعد في المنطقة. جميع مصالح الطاقة في متناول اليد، وإغلاق مضيق هرمز ليس بالأمر الصعب، كما أنّ هناك أطرافاً أخرى قد تدخل غمار الحرب إذا ما اتّسعت.

لهذا، وبعيداً عن المشهد الظاهري، يكون العدوان الأميركي على المنشآت النووية شكليّاً استعراضيّاً، والاستهداف الإيراني للقاعدة الأميركية هو الهجوم الحقيقي، فمثل هذه الأمور تقاس بما يمكن أن تستثمره منها وكيفية توظيفها في رسم المشهد المقبل. من جهة ثانية، هل المشروع النووي عبارة عن منشآت فقط؟ ماذا عن اليورانيوم المخصّب الذي جرى نقله وتأمنيه؟ وماذا عن ثروة البلاد القومية من العلماء، والمقدّر عددهم بالآلاف؟

من السخافة الأخذ بكلام ترامب عن تدميرٍ كاملٍ لمنشآت نطنز، أصفهان، وفوردو، فيما أظهرت التقارير أنّ الدمار اللاحق بالمنشآت يمكن تداركه. وفي الحقيقة، أتمنى أن يبقى الأمر مبهماً، وألّا تنجرّ إيران إلى الكشف عن حجم الضّرر، فهذه مرحلة تقتضي العمل بتكتّم، ولعلّ التوجّه الحالي نحو عدم التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذريّة يوحي بذلك.

من المنطقي أنّ إيران لن تحاول امتلاك قنبلة نووية لثلاثة أسباب:
1. امتلاك قنبلة سيخلق مشكلة مع حلفائها بالضرورة، أعني الصين وروسيا.
2. الفكرة من امتلاك القنبلة تحقيق الردع، وهو موجود لدى إيران في أنظمتها الصاروخية التي لم نشاهدها كلها بعد.
3. الوعي بطبيعة الصراع الوجودي دفع باكستان إلى توظيف قدراتها النووية في صفّ إيران، بمعنى أنّ إيران تعتمد على السلاح النووي الباكستاني كمكافئ لوجود السلاح النووي بيد العدو الصهيوني.

ضمن السّياق الواسع لما يسمّى «الشرق الأوسط الكبير»، حاولت أميركا، بنسخة ترامب، استخدام الكيان الصهيوني -الراغب في الحرب- لأقصى حدّ؛ بمعنى أنّ التخلّص من نظام الجمهورية الإسلامية أفضل من احتوائه وبقائه، لكنّ الخطّة فشلت. في كل الأحوال، تحقّق «الشرق الأوسط الكبير» ضرورة أميركية لمواجهة الصّين، فهل ما تزال هناك جولة أخرى من الحرب وما يحدث اليوم مجرّد هدنة قصيرة؟ أم أنّ ترامب سيذهب إلى عقد اتفاق شامل مع إيران، أكبر بكثير من مجرّد تفاهم حول مشروع نووي؟

كِلا الخيارين لا ينسجم مع المصلحة الصهيونية، فالأول يعني دماراً لم يتحمّله العدو خلال الأيام الماضية، والثاني يعني وجوب تعاطيه مع خطر وجودي حقيقي اسمه إيران. مدّة الهدنة الحالية مفيدة لإيران في تنظيف الداخل الإيراني من شبكات العملاء وترميم الأضرار، أمّا العدو الصهيوني فللمرّة الأولى في التاريخ، يتحدّث عن إعادة إعمار في تل أبيب وحيفا.

ويبقى السؤال الأهم: كيف سينعكس كل ما جرى على بقيّة الساحات؟ هل يدفع حديث ترامب عن صفقة شاملة حول غزة، تترافق مع تطبيع كامل مع سوريا إلى مزيد من الضغط على لبنان، وصولاً إلى احتمال الذهاب إلى حرب جديدة معه؟ ماذا عن اليمن، وانخراطه في إسناد غزة مستمرّ وثابت؟

لم تنتهِ الحرب بعد، لذلك من المبكر الحديث عن النّصر والهزيمة، لكنها جولة فشل كبير للكيان الصهيوني ومن ورائه أميركا؛ فمشهديّة الصواريخ الثقيلة التي تضرب عمق الكيان تؤرّخ لأمر لم نختبره سابقاً. لكننا نعلم أنّ أصحاب الصواريخ لا يزالون يردّدون شعار «مرگ بر آمريكا»، «مرگ بر اسرائيل»، ومعناه في العربيّة: «الموت لأميركا، الموت لإسرائيل». لعلّ الأنظمة الرسميّة العربية تستيقظ من سباتها، علماً أنّ العديد منها بدأت تعي الخطر الصهيوني المهدّد لها، في مسار معاكس لما أنفقوا عليه من مبالغ طائلة لخلق فزّاعة يسمّونها «الخطر الإيراني».

* كاتب عربي من الأردن

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة