ما بين النزوح المتكرر والجوع وصولا إلى الإصابة وبتر القدم بدون تخدير، لا يزال المواطن علاء أبو معوض، يعيش ويلات حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.
في القرية البدوية شمال قطاع غزة، على مرمى النظر من الحدود، عاش أبو معوض (39 عامًا)، حياة بسيطة لكنها محفوفة بالخطر. كان يقيم مع زوجته وأطفاله الخمسة في منزل بناه مع شقيقه بعد سنوات من العمل المضني. عمله كسائق سيارة أجرة بالكاد يكفي لإعالة أسرته، لكنهم تمسكوا بالحياة وسط حصار طويل وقصف متكرر.
الأمان المفقود
برفقة زوجته وأطفاله: غزل 15 عامًا ومايا 13 عامًا وعدي 10 أعوام وغنى 8 أعوام ومحمد 3 أعوام، كانوا يحاولون التمسك بالأمل، ولكن الأمان كان مفقودًا.
أطفالي، مثل غيرهم من أطفال غزة، لا يعرفون الأمان كما يجب ويكبرون في ظل الحصار والعدوان والانقطاع المتكرر للضروريات الأساسية للحياة، يقول أبو معوض في شهادته التي نشرها المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.
نزوح مبكر
مع اندلاع عدوان الاحتلال على غزة قبل نحو عامين، تغيّر كل شيء. قصف عنيف من الجو والدبابات وسقطت الصواريخ والقذائف المدمرة على منازل القرية منذ اللحظات الأولى للحرب، فأدرك علاء أن البقاء يعني الموت. حمل أسرته القلقة، وترك خلفه بيت العمر، وبدأ رحلة نزوح طويلة بدأت بمعسكر جباليا، ثم رفح، ثم دير البلح.
أشهر طويلة عاشها تحت القصف والجوع، يتنقل من مدرسة مكتظة إلى خيمة مهترئة، بلا دخل ولا أمان، حتى جاء الاجتياح الإسرائيلي لرفح وأجبره على الفرار مجددًا.
يقول: كل مرة كنا نرحل فيها نترك خلفنا جزءًا من ذاكرتنا ونعرف أننا قد لا نعود. كانت رحلة النزوح تعني أن نبدأ من جديد في مكان مؤقت لا يضمن شيئًا سوى النجاة المؤقتة. ورغم مرارة التهجير كنا نتمسك بما تبقى من حياتنا ونحاول أن نحافظ على كرامتنا في ظروف لا تُحتمل.
العودة بعد النزوح
مع إعلان وقف إطلاق النار في يناير 2025، عاد علاء سيرًا على الأقدام إلى قريته. لكن ما وجده لم يكن بيتًا، بل أرضًا محروقة تحت سيطرة جيش الاحتلال. نصب خيمة عند دوار الشيخ زايد، لكن القصف عاد في شهر مارس، فهرب مع عائلته مرة أخرى، وهذه المرة بلا وجهة ولا مأوى.
يقول: لم أجد مفرًا سوى الفرار بأطفالي وسط ظلام الليل كحال جميع سكان المنطقة. تركنا خلفنا الخيمة التي حصلنا عليها بعد عناء طويل وذل السؤال وركضنا سيرًا على الأقدام حتى وصلنا إلى شارع الجلاء بحثًا عن مأوى. نمنا تحت عمارة الزهارنة نلتحف السماء ونتوسد الأرض حتى تبرّع لنا أهل الخير بخيمة نصبناها هناك.
بتر بلا تخدير
الجوع صار سيد الموقف. سعر كيس الطحين تجاوز 2000 شيكل، وعلاء لا يملك ثمنه. في 15 يونيو 2025، سمع بوصول شاحنات مساعدات إلى منطقة التوام شمال غزة.
ذهب على أمل أن يعود بكيس دقيق، لكنه وجد نفسه وسط حشود أطلق عليها الاحتلال الرصاص الحي، ثم صاروخًا مزق الأجساد. أصيب علاء إصابة بالغة في قدمه اليمنى، ونُقل إلى مستشفى الشفاء بعد ثلاث ساعات من النزيف.
في مستشفى بلا أطباء مختصين ولا معدات، تُرك علاء أسبوعًا كاملًا دون تدخل جراحي، حتى تفاقمت الالتهابات. في 21 يونيو، قرر الأطباء بتر قدمه لإنقاذ حياته، لكن العملية جرت دون تخدير. صرخ علاء وتوسل، لكن لم يكن هناك دواء. بعد أيام اضطر الأطباء لقص مزيد من العظم بسبب انتشار الالتهابات.
يرقد علاء في الطابق الثاني من مبنى غسيل الكلى في مستشفى الشفاء، يتألم بلا مسكنات، ويعاني من جوع مضاعف، هو وأطفاله. زوجته تبحث له عن لقمة، أحيانًا لا تجد سوى بضع حبات فلافل وبندورة بلا خبز. معبر رفح مغلق، والاحتلال يمنع سفر المرضى، فيتركهم لموت بطيء.
يقول علاء بصوت متهدج: “ما يؤلمني أكثر من الجرح هو جوع أطفالي. لا أطلب المستحيل، أريد فقط علاجًا، وطعامًا يسد رمقهم، وطرفًا صناعيًا يساعدني على الوقوف مجددًا.”