آخر الأخبار

عن الخذلان: المثقّفون العرب نموذجاً

1-6-r6aelttoc61rpetagcye9obgnjwuudxzosgyqhvtdc

أيهم السهلي

قبل أيام، وقّع عدد من الكتّاب والمبدعين والإسرائيليّين على بيان بعنوان «إعلان مجتمع الثقافة: لنوقف الفظائع في غزة»، جاء فيه: «إننا نجد أنفسنا، رغماً عن إرادتنا وقيمنا، وبصفتنا مواطنين في إسرائيل، شركاء في المسؤولية عن الأحداث المروّعة في غزة، ولا سيّما قتل الأطفال والمدنيّين، والتجويع، وتهجير السكان، والدمار العبثي للمدن» (راجع: «مختارات من الصحف العبرية» – مؤسسة الدراسات الفلسطينية).

قوبل البيان بالرفض، فكتب المغنّي عيدان عامدي في «إنستغرام»: «إنّ موقّعي البيان منفصلون ومروّجو أكاذيب. إنّ كل بيت في غزة مليء بدعاية معادية لليهود، من صور الشهداء إلى الشعارات الداعية إلى بلوغ القدس بالدم والنار». ومثله علّقت الممثّلة موران أتياس: «إنني أتفهّم الرحمة لدى كل إنسان، لكن ليس حيال مَن يريدون قتل ابنتي واغتصابها، فقط لأنها يهودية».

هذا الجدل المتأخّر في إسرائيل، لا يشغل بالي كثيراً، بل غياب مئات المثقّفين والفنانين العرب عمّا يجري منذ نحو عامين. نعم يبدو لافتاً غياب صوت المثقّفين العرب في مواجهة هذا العدوان، وفي قيادة شعوب بلدانهم في الساحات، ففي كل بلد عربي، هناك اسم واحد على الأقل، يؤثّر في وجدان الناس، أو أشخاص من المفروض أنهم يشعرون بأنهم «شركاء في المسؤولية عن الأحداث المروّعة في غزة»!
في 14 تشرين الثاني 2023، وجّه 87 مثقّفاً عربياً «رسالة مفتوحة من المثقّفين العرب إلى المثقّفين الغربيّين» طالبوا فيها بإدانة المجازر التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، وتبنّي موقف يدعم بوضوح حقوق الفلسطينيين.

وممّا جاء في الرسالة التي ترجمها المؤرّخ الفلسطيني الدكتور ماهر الشريف: «كنا بصفتنا مثقّفين عرباً نتوقّع من المثقّفين والكتّاب والفنانين في البلدان الغربية أن يدعموا نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية المشروعة والعادلة». وأدانت الرسالة «المعايير المزدوجة» لدى عدد من المثقّفين الغربيّين: «إذا كانت السياسات الغربية الرسمية المحابية لإسرائيل والهادفة إلى التغطية على جرائمها، تريد تشويه نضال الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية عبر وصفها بـ»الإرهاب»، فلا يمكن قبول أن يوافق قسم من المثقّفين الغربيّين على هذا الزّعم الكاذب…». ومن بين الموقّعين على هذه الرسالة: أدونيس، الطاهر لبيب، مارسيل خليفة، بسام كوسا، محمد برادة، نصير شما، وغيرهم.

بعد نحو عشرة أيام، ردّ 37 مثقّفاً ومثقّفة غربيّين برسالة حملت عنوان «رسالة إلى أدونيس وإلى الموقّعين على نداء المثقّفين العرب»، قالوا فيها: «نحن نشارككم قلقكم واستياءكم. إنّ ما نشهده بشعور رهيب بالعجز هو مذبحة الآلاف من الرجال والنساء والأطفال؛ إنها «جريمة إنسانية» لا يمكن تصوّرها، وفقاً لعبارة الأمين العام للأمم المتحدة الشديدة». وأكّدوا أنهم يشاركون المثقّفين العرب «القيم الأخلاقية الأساسية للحضارة الإنسانية».

وذكّروا بأنّ عملية «طوفان الأقصى» أيقظت ذكرى المحرقة في أوروبا وشعور الذنب لدى جزء من الرأي العام الأوروبي. لكنهم قالوا: «من المؤسف أنّ الأعمال الانتقامية التي ينفّذها الجيش الإسرائيلي في غزة وما سبّبته من وقوع الآلاف من القتلى لا يبدو أنها أثارت العواطف نفسها لدى أغلبية وسائل الإعلام الغربية وزعمائنا السياسيّين»، واعترفوا: «يجب أن نواجه الحقائق: ليس لحياة الفلسطينيين وزن كما لحياة الآخرين، بل وزنها أقل بأكثر من عشر مرات!».

تثير هذه الاقتباسات، وباقي الرسالتين، الكثير من الأسئلة، منها: هل انتهى دور المثقّف؟ الوارد هنا والتالي، لن يجيب على السؤال، لكنه يفترض أنّ المثقّفين قادرون على اتّخاذ موقف، وربما تحريك الشارع.

المؤسف أننا لم نشهد حراكاً ثقافياً عربياً مؤثّراً ووازناً في مواجهة العدوان الأكبر على الفلسطينيين والعرب معاً. بل هناك من انبروا لمهاجمة المقاومة، واللّعب على الكلام، بأنّ الهجوم موجّه لفصيل بعينه، وليس لفعل المقاومة نفسه، في محاولة رخيصة لاستخدام أدوات الإبداع، وهنا اللغة، لإرضاء الحاكم، وفي العمق استرضاء الاحتلال، وفي الحقيقة طعن الضمير.

وهناك حقيقة أخرى، في الأول من آب الجاري، أعلن البروفيسور رشيد الخالدي، امتناعه عن تقديم محاضرة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث في الخريف، باعتباره محاضراً خاصاً، بعد أن تقاعد. وأوضح في رسالة وجّهها لرئاسة الجامعة، نشرتها «الغارديان»، أنّ ذلك من المستحيل في ضوء اعتماد جامعة كولومبيا لتعريف «التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لمعاداة السامية (IHRA)»، والذي يخلط عمداً وكذباً وخداعاً، بين اليهودية وإسرائيل، بحيث يصبح أي نقد لإسرائيل، أو انتقاد سياستها، نقداً لليهود. وبيّن في رسالته أنّ الجامعة خضعت لإملاءات الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

الخالدي، وهو المؤرّخ الشهير، اتّخذ موقفاً واضحاً كمثقّف صاحب موقف، وأعلن أنه يأسف لحرمان ما يقارب 300 طالب من هذه الدورة الدراسية الشهيرة، ومع ذلك: «أخطّط لتقديم سلسلة محاضرات عامة في نيويورك تركّز على أجزاء من هذه الدورة، والتي سيتمّ بثّها وتكون متاحة للمشاهدة لاحقاً»، وأضاف: «ستذهب العائدات، إن وجدت، إلى جامعات غزة، التي دمّرتها إسرائيل بالكامل باستخدام ذخائر أميركية، وهي جريمة حرب لم تجد جامعة كولومبيا أو أي جامعة أميركية أخرى أنّه من المناسب أن تقول كلمة واحدة عنها».

هذه لم تكن مجرّد رسالة لتسجيل موقف أخلاقي من أكاديمي مرموق، بل أداة نقد وتفكيك لبنية الأكاديميا الغربية. فالجامعات عاقبت على التضامن مع الشعب فلسطين، ومنعت توجيه أي انتقاد لإسرائيل وجيشها. ما حدث ويحدث في الغرب، يجعل الاستغراب يطغى من مثقّفينا الذين يطالبون بـ«ديموقراطية الغرب»، من دون أن يضيفوا أنّ الديموقراطية وحقوق الإنسان الغربيّة استنسابيّة، تطبّق على بشر، وعلى بشر آخرين ينفّذون القتل، أو الاستخدام والاستعباد.

فمؤخّراً، مع حدوث العديد من الجرائم والانتهاكات في أنحاء مختلفة من سوريا، ينشط العديد من المثقّفين الفلسطينيين والسوريين والعرب في الغرب، في متابعة هذه الأحداث ونقد السلطة القائمة في سوريا حالياً. بعضهم يضع أكثر من منشور يومياً، ومعظم هذه المنشورات محقّة. لكنّ هؤلاء، تكاد تغيب غزة وفلسطين تماماً عن منشوراتهم، وإن مرّت، فتمرّ «عفو الخاطر»، من دون أن تثير جلبة. هؤلاء تخضعهم «ديموقراطية الغرب» إلى معاييرها التي تسمح بانتقاد انتهاكات حقوق الإنسان في مكان، وتحظر وتعاقب في مكان آخر، ما دام الفاعل هو إسرائيل.

هناك تعاطف شعبي في الغرب، نشاهده في التظاهرات الضخمة أحياناً، وأدّى فعلاً إلى نقد عميق وحقيقي للرواية الصهيونية في العالم. لكنّ الأقربين الأولى بالمعروف، أين هم؟
إنّ قيمة المثقّف والفنان والمبدع في القضية التي يتبنّاها، وعدا عن ذلك، ليس هناك فنّ من أجل الفن، بل هوان من أجل الهوان، ومن أجل مكاسب ستتناقص، بينما تتناقص هذه البلاد المفروشة بالدم.
* كاتب فلسطيني

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة