معين الرفاعي
الحديث عن القيادة في الواقع الفلسطيني هو أمر مختلف عن الحديث عن القادة. عرف الشعب الفلسطيني الكثير من القادة الكاريزماتيين الذين كان لهم التأثير الكبير على الجماهير منذ بدء الصراع مع الكيان الصهيوني وحتى اليوم. وسجل التاريخ قادة أصبحوا أعلاماً ورموزاً، من أمثال الشهيد عز الدين القسام و عبد القادر الحسيني، وغيرهما الكثير. وقبل سنين قليلة خلت، عرف الشعب الفلسطيني عدداً من القادة الأفذاذ، أمثال الراحل ياسر عرفات، والشيخ أحمد ياسين، والدكتور فتحي الشقاقي، و الدكتور جورج حبش، وغيرهم. هناك ما يزيد على ثمانية عشر فصيلاً فلسطينياً يحظون بمشروعية شعبية وسياسية.
ومع ذلك، إنه من المفيد في الحالة الفلسطينية التمييز بين القيادة والقادة. ذلك أن القيادة – بمعناها الأصلي ووظيفتها الأساسية – تكون بالبديهة، وطنية جامعة تسعى إلى تحقيق الأهداف الكلية للشعب الفلسطيني كما يراها الشعب ذاته. وجود عدد كبير من القادة، نتيجة التشظي والانقسام في الواقع الفلسطيني، يعبّر عن أزمة في القيادة ذاتها.
تاريخياً، نجح عرفات في تبوّء منصب قيادة الشعب الفلسطيني، بالمعنى العام والواسع للكلمة، منذ تسلّم دفة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1969 حتى عام 1974، حين أقر المجلس الوطني الفلسطيني برنامج النقاط العشر، ما أسس إلى انحراف عن أهداف الشعب الفلسطيني في التحرير الكامل والعودة.
ما أدى إلى تشكيل «جبهة الرفض» الرافضة أي حلول استسلامية للقضية. كما أدى بالتالي إلى وضع الأسس للانقسام الداخلي في الواقع الفلسطيني. ورغم أن عرفات استمر في قيادة منظمة التحرير، وتصدر المشهد بصفته رمز القيادة الفلسطينية، إلا أن مسار التدهور في القيادة استمر، لينفجر بعد رحيل عرفات.
في الحديث عن أزمة القيادة الفلسطينية، لا يمكن إغفال العوامل الموضوعية، وفي مقدمتها الظروف الاستثنائية وغير المسبوقة التي يعيشها الشعب الفلسطيني. فلم يشهد التاريخ طرد شعب من أرضه وتشظيه في مناحي الأرض، وفقدان تواصله الجغرافي، وأساسه الاقتصادي، ثم يبقى مع ذلك محتفظاً بهويته الوطنية، ويناضل لتحقيق أهدافه في تحرير أرضه والعودة إليها، مثلما فعل الشعب الفلسطيني. ما يسجل للشعب الفلسطيني أنه نجح في الحفاظ على هويته الوطنية من الضياع والاضمحلال.
هذا الواقع الموضوعي، إضافة إلى أسباب وعوامل ذاتية أخرى حاضرة، يشكل جزءاً من أزمة القيادة في الشارع الفلسطيني. ارتضى التيار الذي سلك مسار أوسلو أن يكتفي بجزء من الشعب وبجزء من الأرض ليقيم عليه سلطة، وصفها بالوطنية – رغم تخليه عن 78% من الأرض، وما يقرب من 50% من الشعب، هم اللاجئون. ساعدت عوامل خارجية، مثل الدعم العربي والدولي، أصحاب هذا الاتجاه في التمسك بمواقفهم. وفي المقابل، سعت الفصائل المعارضة لأوسلو إلى تمثيل الأكثرية الرافضة لأوسلو في الشعب الفلسطيني، إلا أنها مع ذلك لم تستطع بلورة قيادة وطنية جامعة.
سعت الفصائل المعارضة لأوسلو إلى تمثيل الأكثرية الرافضة لأوسلو في الشعب الفلسطيني، إلا أنها مع ذلك لم تستطع بلورة قيادة وطنية جامعة
لا شك أن وراء هذه الأزمة عدداً من العوامل، أبرزها: الانقسام السياسي الذي تسببت فيه سياسة الاستفراد واحتكار القرار داخل منظمة التحرير، وتكلّس البنى التنظيمية لعدد من الفصائل -ولا سيما الأيديولوجية منها- وغياب الآليات الديموقراطية داخل التنظيمات بما يسمح بتجديد دمائها، في ظل الفردانية وسيطرة المحسوبية وغياب آليات واضحة لاتخاذ القرار، وسطوة المال السياسي في فرض الهيمنة الداخلية، ناهيك بعدم القدرة على إجراء انتخابات وطنية على المستوى الشعبي، إضافة إلى ضعف المؤسسات الوطنية الجامعة، ومصادرة قرارها من ذوي النفوذ، ووضع الاشتراطات السياسية المسبقة، كاشتراط الموافقة على برنامج منظمة التحرير قبل دخول الفصائل المعارضة إليها، أو الترويج أخيراً لعدم حاجة الشعب الفلسطيني إلى سلاح ليدافع به عن نفسه.
إضافة إلى هذه العوامل، ثمة عوامل خارجية، أهمها ضغوط الاحتلال الذي سعى طويلاً إلى الاستثمار في الانقسام الفلسطيني، ويسعى حالياً إلى تهجير أكبر جزء من الفلسطينيين من أرضهم، وكذلك الضغوط الدولية التي رهنت مصالح الشعب الفلسطيني ولقمة عيشه بالاستجابة لمجموعة من الشروط التي تباعد بينه وبين أهدافه الوطنية، وأيضاً رهان بعض الدول العربية على الاستثمار في الانقسام – وكذلك في حرب الإبادة التي يشنها الكيان ضد الشعب الفلسطيني – للتخلص من الأصوات التي تعترض مسيرة التطبيع مع الكيان، وتصفية الحساب مع فصائل الإسلام السياسي في المنطقة.
إزاء كل هذه الظروف والمعطيات، يحتاج الشعب الفلسطيني إلى قيادة تمتلك رؤية واضحة وقابلة للتنفيذ، تستطيع تفعيل إمكاناته في أماكن وجوده كافة، وتسعى إلى تحقيق أهدافه الوطنية العامة، وقادرة على إدارة الخلافات والاختلافات الداخلية وتجاوز الانقسام، وكذلك الالتفاف على عقدتي التشتت في الأرض وعدم امتلاك قاعدة اجتماعية واقتصادية صلبة، في ظروف بالغة التعقيد، ولا سيما في ظل التخاذل والتواطؤ العربي والغربي لإنهاء القضية الفلسطينية.
إنّ حاجة الشعب الفلسطيني اليوم، هي إلى قيادة قادرة على تفجير طاقات الشعب، والخروج من أزقة الخلافات الفصائلية الداخلية، وبلورة رؤية وطنية وعربية وإسلامية، قادرة على إنزال القضية الفلسطينية منزلتها المستحقة، ولا سيما في ظل هذا الالتفاف الشعبي العالمي غير المسبوق حول القضية الفلسطينية، وتدهور الرواية الصهيونية على المستوى العالمي، ما يشكل فرصة مؤاتية، ولا سيما في ظل صمود الشعب الفلسطيني وأبطاله في المواجهة المفتوحة في غزة.
الكل الفلسطيني اليوم، مهما اختلف وتباعد، في مركب واحد، يحاول أعداؤه إغراقه بشتى الوسائل والسبل – سواء أدرك الكل ذلك أم لا! ومن دون تبلور قيادة حكيمة وقادرة، سيبقى الشعب الفلسطيني يدفع ثمن الانقسام والتآمر الخارجي والتشظي الداخلي واحتكار بعض المحسوبيات لموارده وقدراته وإعاقة تقدّمه، ولن يبقى شيء للاختلاف حوله أو التقاتل عليه. ما يحتاج إليه الشعب الفلسطيني اليوم هو قيادة على قدر المسؤولية التاريخية، وقادرة على استثمار تضحياته الجسيمه و تحويل معاناته المريرة إلى أداة انتصار حقيقية.
* باحث وسياسي فلسطيني