آخر الأخبار

إلى صديقي في غزة

92c9d1f5-3942-44e4-97ea-c24567b162bd

أيهم السهلي

مرّت الحرب، أو على الأقلّ هذا ما يبدو حتى الآن. وبقيت أنت أنت، كما كنت قبلها، وخلالها، وكما ستكون بعدها.
هذه الحرب التي عرّفتك إلى غزة أكثر وأكثر، وجمعتك بتفاصيل صغيرة وكبيرة، كنت تودّ لو أنّ كل شيء على ما يرام لتروي عن هذه التفاصيل كل الحكاية. لكن في غزة كما تقول أنت، الطيبة الشديدة تمنع الأمور أن تكون كما يجب أن تكون، هادئة بسيطة جميلة. لا بدّ من حرب حتى تستقرّ الأمور، ولا بدّ من موت جديد حتى تكون الحياة جديدة.

كأنّ هذا القدر المؤلم في غزة، يأخذك إلى أقصى المستحيل، حيث تقف أنت بكل كبرياء العالم، تنادي على الأصدقاء، لا لتقابلهم في حلمك أو هاتفك، بل لتقول لهم، أهلاً بكم في غزة، أهلاً بكم في هذا المكان المؤلم، وأهلاً بكم في هذا المكان الذي ينهض كل يوم من الموت ليحيا.

نتبادل الرسائل منذ وقت لا بأس به، نعرف بعضنا منذ سنوات، لكنّنا نتمهّل في شرح أساسيات بيننا، فالبعد الذي هو حاجز كبير بيني وبينك، قلّصته الكتابة، كما قلّصه القلق عليك من شدّة القنابل التي انهالت حولك وحول جيرانك وحول أهلك، وفي كل مكان يمكن أن تكون فيه. لكنك يا بهاء، من شدّة براعتك في سبك المواقف، قرّرت قبل سنة من الآن، أنك سترى نهاية هذه الحرب التي نحن فيها.

لكن كما قلت لك، أنت بارع، ولذلك قرّرت أن تكتب وتكتب وتكتب، وفي مرّات عدة جرّبت أن تشعرنا بأنّ الحرب انتهت، وأنت أدرى كما تعرف، بأنها مستمرّة، فأنت الذي كنت تسمع صوت الصاروخ، وصوت الدبّابة، وأنت الذي كنت تخرج نحو المستشفيات لترى الناس، وتجرّب مساعدتها. الحرب ربما انتهت، أو ربما نحن في المشهد ما قبل الأخير، أو في المشهد الأخير.

براعتك التي أقصدها، هي في الاحتجاج، حين قرّرت أن تكتب تلك الكلمات على صفحتك، كرسالة وداع، كنت تصرخ في وجه الظلم، ولأنك بارع وقوي، قرّرت أن تكتب، وأن تلفت نظر الذين يلتزمون الصمت إلى الظالم القاتل. أتذكّر كلماتك في إحدى الرسائل «الحرب التي غيّرت وجه المدينة غيّرتني بصواريخها وصرخات ضحاياها. ما جدوى الحياة؟ وكيف تكون الجدوى مستمرّة؟ لقد فقدت قدرتي على إضفاء المعنى لحياتي».

في كل مرة كتبت فيها، سواء في الصحف أو في صفحتك، كنت تجرب يا صديقي أن تصرخ في وجه العالم، أن انتبهوا إلى غزة، لا توقفوا الحديث عنها، ففيها أهلكم الذين ظلّوا واقفين بينما كانت الطائرة تطلّ لتعضّ الأرض، وتأكل عدسها وبصلها ونساءها وأطفالها ورجالها وشيوخها.

إنّ هذه الحرب التي عشتها أنت بكل تفاصيلها، ونحن خارج قطاع غزة ادّعينا أننا نعيشها معكم، قتلت بكل البشرية أشياء عدّة، من بينها «وجع الحياة» الذي قال شاعرنا محمود درويش، إنه من أسباب الوفاة الكثيرة. فلمّا قتلت الحرب الحياة، قتلت وجعها. وهذا الكلام على قسوته بيني وبينك، يجعلني أطالبك بالوقوف لمواجهة القادم المؤلم، فالأطفال الذين يحبّون الضحك والمرح، يحتاجون في غزة نكاتك، ويحتاجون أن تعرّفهم إلى الحياة كما أنت تراها.

أمّا الرجال يا صديقي، فيحتاجون منك معرفة أخرى عن الصمود، أنت تمثّلها، فلعلّ البعض لا يعرف، كيف بقيت صامداً في الحرب وأنت تحتاج حبة دواء، ولما لم تتوفّر هذه الحبة، قاومت، وواجهت نفسك، وبقيت أنت أنت. بهاء الذي يحبه الجميع. أمّا النساء يا صديقي، فهنّ اللواتي يردن أن تبقى على قيد الأمل، لأنّ أمثالك يحيون ورد غزة في قلوبهن.

هذه الرسالة المرسلة إليك، ليست لك تماماً. هي لنا نحن الذين في الخارج، ولنا نحن الذين في الداخل. هي من أجل احترام الحب يا صديقي، حب الحياة، ورفع راية الأمل، وإعلان الاستعداد للاستمرار في محاولة النجاة من ظلم مستمرّ، سينتهي، إن استمرّينا نسقي الورد حتى يستمرّ بالنمو.
هذه الرسالة المرسلة إليك، ليست لك تماماً، إنها رسالة إلى غزّة.

* كاتب فلسطيني

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة