كريم حداد
عندما يظنّ البعض أن تفاوض لبنان مع إسرائيل هو الترياق، يجدر بنا العودة إلى التجربة الفلسطينية التفاوضية. وهو ما ورد في بحث تحت عنوان «الغد هو أمس». وقد اختار الباحثان حسين آغا وروبرت مالي هذا العنوان لكتابهما الذي يحلل إخفاق عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية. والعنوان يحمل فكرة عميقة: مستقبل الصراع محبوس في ماضٍ لم يحل بعد. هذا بالضبط ما يجب أن يتعلمه لبنان من التجربة الفلسطينية قبل الدخول في أي مفاوضات مع إسرائيل.
عبر ثلاثين عاماً من المفاوضات، اكتشف الفلسطينيون أن «عملية السلام» كانت في كثير من الأحيان مجرد وهم. ويوضح كتاب «الغد هو أمس»، أن اتفاقيات أوسلو لم تكن سوى «اتفاقيات غامضة» أخفت التناقض الأساسي: هل منظمة التحرير الفلسطينية هي حركة تحرر وطني، أم هي حزب سياسي يدير شؤون الحكم تحت الاحتلال؟
يتضح من السياق، أن إسرائيل كانت دوماً، الطرف الأقوى الذي يسيطر على الأرض والموارد وحياة الفلسطينيين. في مثل هذه الحالة، لم تكن المفاوضات بين طرفين متساويين، بل كانت أشبه بمحادثات بين السجّان والسجين. لم تكن لإسرائيل حافز حقيقي لتقديم تنازلات جوهرية.
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، التي حضرت كوسيط رئيسي، فهي لم تكن محايدة أبداً. يصف الكتاب الإدارة الأميركية بأنها كانت «رسولاً» للعروض الإسرائيلية أكثر من كونها وسيطاً نزيهاً. كان دورها هو العمل على «فرض» المقترحات الإسرائيلية على الفلسطينيين، وليس التوفيق بين حقوق الطرفين.
المشكلة الأهم في التجربة الفلسطينية، هي أن خيار تجميد الصراع مع العدو، دفع إلى افتتاح الحرب الأهلية الفلسطينية، ما أدى إلى إضعاف الموقف الفلسطيني برمته ودفع بالفلسطينيين إلى خيارات اليائس.
يجري الحديث حالياً عن ذهاب لبنان إلى تفاوض مع إسرائيل. ولكنّ التفاوض المباشر قد يحرم لبنان من استخدام أدوات ضغط مهمة، تماماً كما حرم الفلسطينيين من أدواتهم. فبعد توقيع اتفاقيات أوسلو، أصبحت أي مقاومة فلسطينية مسلحة توصف بـ«الإرهاب»، بينما استمر الاستيطان الإسرائيلي تحت غطاء «عملية السلام». هذا إضافة إلى أنه قد يتحول التفاوض إلى اعتراف ضمني بالكيان الإسرائيلي من دون ضمانات حقيقية للحقوق اللبنانية. كما حدث مع الفلسطينيين، إذ أصبح الاعتراف بإسرائيل مقدمة لأي تفاوض، من دون أن يقابله اعتراف إسرائيلي بالحقوق الفلسطينية الأساسية.
يعرف الجميع أن إسرائيل سوف تشترط نزع سلاح المقاومة كخطوة مسبقة لأي تفاوض، تماماً كما فعلت مع منظمة التحرير الفلسطينية. هذا الشرط يحرم لبنان من أهم أوراق ضغطه، ويجعله طرفاً ضعيفاً في المفاوضات. وبالتالي فإن مثل هذا الخيار، يقود إلى تصديع وحدة لبنان وربما دفعه إلى حرب أهلية. وهو احتمال راجح في ظلّ تباين المواقف في التعاطي مع قضيتي التحرير والدفاع. عندئذ، يجني لبنان حربه الداخلية فيكون كمن تجرع السمّ ظاناً أنه ترياق.
دروس التجربة الفلسطينية
يحلل كتاب «الغد هو أمس» قمة كامب ديفيد عام 2000 بشكل مفصّل، ويُسقط الكثير من الأساطير حولها. فخلافاً للرواية السائدة التي تلقى باللوم على ياسر عرفات، يظهر الكتاب أن العروض الإسرائيلية كانت مشوّشة ومتغيرة باستمرار، وأن إسرائيل لم تقدم أبداً خريطة واضحة لحدود الدولة الفلسطينية.
كما إن العروض كانت أشبه بـ«لعبة تخمين» لمعرفة الحد الأدنى الذي قد يقبله الفلسطينيون.
واحدة من نتائج هذا الخيار، كانت في ظهور الانقسام الداخلي بين تيارين، تقود «فتح» أحدهما، بينما تقود الآخر حركة «حماس»، وهو انقسام أضعف الموقف التفاوضي الفلسطيني بشكل كبير. وفي هذا تحذير واضح للبنان، من أن الوحدة الوطنية شرط أساسي لأي تفاوض ناجح.
الأمر الآخر، يتعلق بالإطار الزمني. حيث استمرت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لعقود، بينما كانت إسرائيل تواصل بناء المستوطنات وتغيير الحقائق على الأرض. المفاوضات الطويلة من دون نتائج ملموسة تعني خسارة الوقت لمصلحة الطرف الأقوى.
ماذا على لبنان أن يفعل؟
ما يجب على لبنان تعلّمه، هو الإقرار أولاً بضرورة وجود إجماع وطني حول الحدود الدنيا للتفاوض. إذ لا يمكن للبنان أن يدخل مفاوضات وهو منقسم على نفسه. وأن يكون هناك قرار واضح بالحفاظ على أدوات الضغط التي تضمن عدم التفريط بالحقوق. القوة والوحدة هما شرطان أساسيان لأي تفاوض ناجح. ثم إن الأمر برمته يحتاج إلى سؤال عن هوية الوسيط، وعلى لبنان البحث عن وساطة دولية حقيقية، تكون أكثر توازناً من الوساطة الأميركية الأحادية. ربما يكون للاتحاد الأوروبي أو للأمم المتحدة دور أكثر توازناً.
التجربة الفلسطينية غنية بالدروس حول مخاطر تفاوض غير واضح ومن دون أوراق قوة ومع وسيط غير نزيه… وتجربة الحكم الجديد في سوريا، تقدم صورة أكثر وضوحاً عمّا يريده العدو وعمّا تقوم به أميركا
من جهة ثانية، يفترض بلبنان أن يحدد بشكل مسبق أهدافه من التفاوض، والنتائج المطلوبة وعدم الدخول في مفاوضات مفتوحة. يجب أن يعرف لبنان بالضبط ما يريد تحقيقه، وما هو الحد الأدنى المقبول. حيث توجد ثوابت وطنية لا يمكن المساس بها، مثل الحق في الأرض والسيادة الكاملة. هذه الثوابت يجب أن تكون خطاً أحمر في أي مفاوضات.
كذلك، من المفيد التعلم من الدرس الفلسطيني، لناحية التصرف إزاء التفاوض من موقع القوة، لا من موقع الضعف. والتجربة الفلسطينية كما يصورها كتاب «الغد هو أمس» تحذر من أن التفاوض من دون توازن قوى ومن دون ضمانات دولية حقيقية قد يكون مجرد فخ يؤدي إلى خسارة أوراق الضغط، وشرعنة الأمر الواقع الإسرائيلي كما إضعاف الموقف التفاوضي مع مرور الوقت.
وهذا يقودنا من جديد للقول إن الدرس الأساسي للبنان، هو إن المفاوضات يمكن أن تكون أداة مفيدة، ولكن فقط إذا دخلها من موقع القوة والوحدة، ومع وجود إستراتيجية واضحة وثوابت راسخة. من دون هذه الشروط، قد يصبح «غد» لبنان مجرد تكرار لـ«أمس» الفلسطيني المرير.
ولأن النقاش قائم بصورة جدية، فمن المهم التذكير، بأن الطريق إلى التفاوض الناجح يبدأ بتعزيز الوحدة الوطنية، وحماية القدرات الدفاعية، والاستعداد لمواجهة أي محاولة لفرض شروط غير عادلة. فقط من هذا الموقع، يمكن للبنان أن يحقق من المفاوضات، ما يعزز سيادته ويحمي مصالحه الوطنية.
أما لناحية ما يقدم لنا اليوم من نماذج، فإن ما يطرحه الأميركيون وحلفاؤهم من اللبنانيين، هو الأخذ بنموذج المفاوضات التي يجريها الحكم السوري الجديد كنموذج. فهل لنا أن نسأل هؤلاء جميعاً، ما الذي جنته سوريا من هذا التفاوض حتى المباشر مع العدو، لجهة استعادة الأرض وتحقيق السيادة أو منع عدوان. ولا داعي لانتظار الجواب، لأن العدو ليس مهتماً بالتفاوض مع السوريين، بل هو مهتم بإبلاغهم لائحة شروطه. والتي تبدأ بالتخلّي عن الجولان وجبل الشيخ والمحافظات الجنوبية.
سيسمع المفاوض اللبناني غداً الشروط الإسرائيلية، وفيها وضع الجنوب تحت سيطرة العدو، والعمل على قتال المقاومة، ثم نرى لاحقاً ماذا نعطيه لكم، وسوف نكون أمام وسيط أميركي يقول لنا علناً: نحن لا نضغط على إسرائيل.