بقلم: عصام الحلبي
العبودية ليست صفحةً من الماضي، بل فكرةٌ متجددة تتخذ لنفسها أشكالًا جديدة في كل عصر، قد تختفي السلاسل، لكن روح العبودية تبقى، تتنكر أحيانًا في هيئة الولاء، وأحيانًا في لبوس الواقعية، حتى تصبح جزءًا من الوعي الجمعي لبعض الناس الذين يجدون في الخضوع راحةً، وفي الحرية خطرًا لا يُحتمل.
عبر التاريخ، كان المستعبَدون صنفين، من أدرك قيده وسعى لكسره، ومن آمن بالقيد حتى صار جزءًا من تكوينه، وهذا الثاني أخطر من سيده نفسه، لأنه يحرس سجنه بعقله قبل أن يُقفل عليه بابه.
ولعل التجربة الأمريكية القديمة في زمن الرق تقدم نموذجًا كاشفًا لذلك، فعبيد الحقول كانوا يعرفون قسوة العبودية، يشعرون بجلد السياط على ظهورهم كل يوم، ويتطلعون إلى لحظة الحرية مهما كان ثمنها، أما عبيد المنازل، فقد ألفوا نعومة القيود يأكلون من فتات السادة ويلبسون ما يُلقى إليهم من ثيابهم، حتى ظنوا أنهم أرفع شأنًا من إخوتهم في الحقول، فوقفوا ضدهم حين فكروا في الثورة أو الهرب، لم يكن خوفهم هو الدافع، بل قناعتهم أن العبودية التي يعرفونها خيرٌ من حريةٍ مجهولة.
وهكذا، وقف بعض العبيد في وجه من أراد أن يحررهم، لأنهم رأوا في دعوات الحرية تهديدًا لمكاسبهم الصغيرة. وما أشبه الأمس باليوم.
فقد وُلدت في عصرنا أشكال جديدة من العبودية، لا يُساق أصحابها بالسلاسل، بل يسيرون إليها مختارين، يلبسون عباءة الانتهازية والوصولية، ويتخذون من الخنوع طريقًا نحو المناصب والمكاسب، ظانين أنهم أحرار ما داموا يملكون شيئًا من السلطة أو المال. غير أن كل ما يجنونه يبقى تحت سقف العبودية، لأنهم باعوا كرامتهم بثمنٍ من الجاه، وتخلّوا عن طبقتهم الاجتماعية مقابل فتاتٍ يظنون أنه خلاصهم.
يخذلون من يشبهونهم في المعاناة، ويقفون ضد كل فكرٍ يوقظ فيهم حسَّ الرفض أو الرغبة في التغيير، يرفعون راية السلام الزائف، ويتخذون من خضوعهم وسيلة للبقاء في دوائر النفوذ، غير مدركين أنهم يرسخون عبودية جديدة أكثر إتقانًا من القديمة.
الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بوعيٍ وشجاعة، ولن يتحرر مجتمعٌ ما دام بين صفوفه من يحنّ إلى قيوده أو يدافع عنها. فالمعركة الحقيقية ليست بين السيد والعبد، بل بين العبد الذي يرفض القيد، والعبد الذي أحبه حتى صار جزءًا منه.