آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [27]

2

أسعد أبو خليل

حرب الإسناد: الدور الإعلامي

كيف نفسّرُ ذلك بغير الإشارة إلى سياق النصر مقابل سياق الخسارة، سياق 2006 مقابل سياق 2024؟ في حرب تمّوز، كان الإعلام الحربي للحزب جدّ متحفّظ. كان سابقة في تاريخ صراعنا مع إسرائيل. كانت السيوفُ أطول وأكبر من الكلام والخطب (بالإذن من نزار قبّاني في قصيدة له بعد 1967). على العكس، الإعلام كان متواضعاً جدّاً، وبخاصّة لو تقارنه بتاريخ إعلام المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة. في المرحلة الأولى من حياة التنظيم، اجترح مسلكاً جديداً مبتكَراً في العمليّات العسكريّة ضدّ الاحتلال وأعوانه: كان إمّا يلتزم الصمْت المُطبق أو يعلن المسؤوليّة عن عمليّة، لكن بلُغة متحفّظة وباسم تنظيمات وهميّة. وُلدَ الحزب سريّاً ومجهولاً في زمن ظنّت فيه المقاومات أنّ المقاومة الحقّة (كما علّمَ ياسر عرفات ورفاقه) هي كناية عن إعلام وخُطب وتبجّح قبل أن تكون عملاً عسكريّاً وتخطيطاً دقيقاً ومُتقَناً.

الحزب قلبَ الآية تلك. في منظّمة التحرير كان التنافسُ على أشدّه بين التنظيمات المتناحرة، وكانت العمليّات (استعراضيّة في غالبها وفاشلة في كثير من الأحيان) من ضرورات إثبات الوجود وتعزيز التمثيل في منظّمة التحرير (وتعزيز التمثيل كان يعود بمزيد من التمويل حسب نظام محاصصة ابتدعه ياسر عرفات واستعمله بمهارة للسيطرة على كلّ التنظيمات). استخلصَ هذا التنظيم الجديد العِبر الأساسيّة من تجربة الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينيّة في ذلك الصيف الطويل في عام 1982.

«المرابطون» في حرب الفنادق جعلت الناس يومها تصدّق أنّها هي التي هزمت الانعزاليّين في تلك الحرب المفصليّة، فيما كان أحمد جبريل في «القيادة العامّة» (وبمساندة من الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين) يتولّى مَهمّة القتال من دون إعلان. سمح جبريل بتجيير النصر للحلفاء اللّبنانيّين. الحزب لم يكن يتحفّظ في الإعلام من باب التواضع فقط: كان يحارب ضدّ المزاج العام، وحتماً ضدّ مزاج الطائفة في الجنوب آنذاك.

لا شكّ أنّ لحسن نصرالله دوراً كبيراً في الإشراف على إعلام الحزب عبر السنوات. تتبيّن بصماته الواضحة. ترك أثره في التحفّظ والتقليل والتواضع والدقّة والقراءة المتأنّية للعدوّ. الدقّة كانت غائبة عن البيانات العسكريّة للجيوش العربيّة وتنظيمات المقاومة الفلسطينيّة. لو أنّكَ أحصيتَ عدد الجنود الذين كانت حركة «فتح» تزعم أنّها قتلتهم لطلعتَ بأعداد تقارب عشرات الآلاف. الحزب كان يصف المعارك كما هي من دون زيادة أو نقصان.

وصِفة التواضع أُخذت عليه واستغلّها خصومه. هناك اليوم من متقاعدي الحركة الوطنيّة مِن الذين يزعمون أنّ «جمّول» هي التي حرّرت بيروت والجنوب وأنّ الحزب أتى في ما بعد. لا، الحزب بدأ العمل الدؤوب المدروس منذ صيف 1982، والعمليّات الكبرى التي كانت تؤثّر على سلوك العدوّ كانت مِن صُنعه هو. مؤيّدو «جمّول» (في الفريق اليميني الخليجي) يزعمون أنّ الحزب تفرّج على الميدان من 1982 حتى 1994 وأنّه انطلق بعد انسحاب العدوّ الأوّل. لم يكن الحزب يردّ على تلك المزاعم والاتّهامات لأنّه كان: يعمل بصمت.

لكنّ شيئاً ما أصاب الحزب بعد حرب 2006 والانتصار الكبير الذي سُجِّلَ، وبخاصّة بعد الحرب في سوريا. تغيّرَ سلوك الحزب الإعلامي وتفلّتت الضوابط. الانتشاء بالنصر والغرور شاب السلوك المستجدّ، وإعلاميّو الحزب (حتى العاملون في «المنار») أسفّوا في الخطب والسجالات على المواقع. والدخول في سوريا جعل من العناصر متطوّعين إعلاميّين يستعينون بالهواتف الخليويّة لبثّ رايات النصر والتباهي، ونشْر الهتافات الطائفيّة المذهبيّة التي كانت سرعان ما تنتشر لأنّها شكّلت موادَّ جاهزة للمطبخ الإعلامي الخليجي-الإسرائيلي-الغربي. كلّ الشعارات التي نشرها مقاتلون من الحزب أسهمت في الدعاية ضدّه وحرّضت الشعب السوري ضدّ الحزب والمحور.

وكشْف الوجوه وعرْض صور المآتم والمدافن أمدّا العدوّ المتربّص بمخزون هائل من الوجوه وصِلات القربى. كان ذلك هو الانكشاف الكبير الذي دخل منه العدوّ في حربه الوحشيّة على لبنان (لا نزال نرى صوراً لمقاتلي «الرضوان» على المواقع، وتغطية الوجه وكشْف العيون يكفيان كي يتعرّف العدوّ إلى أسماء المقاتلين مستعيناً بعناصر التجسّس البشري).

أداء الإعلام الحزبي في بداية الحرب عكسَ الـ«هوبرس» الذي تحدثتُ عنه من قبل (أي غرور القوّة والاستهانة بالأعداء). من أوّل شرائط الفيديو بعد «طوفان الأقصى» كان ذلك الشريط الذي ظهر فيه الأمين العام للحزب، حسن نصرالله، وهو يمشي بطريقة العرض البطيء. كان ذلك بمنزلة التهديد الأكبر لإسرائيل. استغربتُ الفيديو الذي أنعش معنويّات الكثيرين والكثيرات. كان ظهور نصرالله بحدّ ذاته تحدّياً كبيراً للعدوّ. وكان ذلك في زمن اعتنق فيه الكثيرون فكرة أنّ قوّة الحزب تضاهي قوّة العدوّ، وأنّ هناك توازن رعب حقيقياً. وبالفعل، كان هناك توازن رعب استمرّ لسنوات من عام 2000 حتى حرب الإسناد. هذا التوازن لم يسبق له مثيل في تاريخ الصراع مع إسرائيل.

العدوّ كان مرتدعاً، لكن هناك من الأصوات الصهيونيّة من العاملين والعاملات في الإعلام الخليجي الذين روّجوا ويروّجون لنظريّة أنّ امتناع العدوّ عن شنّ عدوان على لبنان يعود لوداعة إسرائيل وسلميّتها وحُسن خُلقها. يروّجون لهذه النظريّة اليوم. العدوّ بعد 1948 لم يتوقّف عن العدوان وكان جيش لبنان في حينه يملك طائرات مقاتلة ومدافع وهي اليوم ممنوعة عنه بأمر من الراعي الأميركي للجيش والذي يضمن الحصول على أفضل أفران المناقيش واللّحم بعجين للجيش (للإنصاف، تُسهم الحكومة الألمانيّة أيضاً في تسليح الجيش بأفران المناقيش واللّحم بعجين).

رأَينا بعد اتّفاقيّة وقف الأعمال العدائيّة (من جانب واحد) أنّ هذا العدوّ الوحشي ينتهز أيّ فرصة ضعف كي ينقضّ فيها على البلد العربي ويمعن فيه تهشيماً وتحطيماً. دعكَ من مثال لبنان: هاكم النظام السوري المنبطح بالكامل أمام الجيش الإسرائيلي، وحكومته قد خاضت خمس دورات من المفاوضات المباشرة، وعلى أعلى مستوى، مع حكومة العدوّ، وهي لم تفضِ إلى شيء ولم تقبل إسرائيل بالانسحاب من أيّ شبر من الأراضي السوريّة (من احتلال الجولان إلى الاحتلالات الجديدة).

ليس هناك ما يدلِّل على نجاح توازن الردع والرعب إلّا العيش في ظلّ زواله. لبنان باتَ مشرَّعاً أمام إسرائيل كما كان في معظم سنواته في ظلّ سيطرة إسرائيل في المنطقة. ظهور شريط نصرالله كان يهدف إلى أبعد مِن التذكير بالتوازن بل هدفَ إلى التهديد بما هو أعظم من الردع. الرسالة كانت واضحة في أنّ الحزب في وارد الهجوم، أو قد يكون في وارد الهجوم. وهذا في حدّ ذاته مستغرَب لأنّ الحزب على مستوى القيادة السياسيّة لم يكن يدرك حجم التغييرات التي تسبّب فيها «طوفان الأقصى». ولو كان في وارد الهجوم، فإنّ الفيديو التهديدي يقضي على عنصر المُباغتة الذي مارسه السنوار.

طبعاً، هناك في موقف الحزب من الكرامة والوفاء لفلسطين ما لم يبدر عن أيّ طرف عربي بعد رحيل جمال عبد الناصر (الذي خاطر بحياته وبنظامه للدفاع عن سوريا وعن الحقّ العربي). المشكلة في الفيديو أنّنا اليوم نراه في سياق ما جرى ونتساءل: على ماذا كان الإعلام الحربي يعتمد في تلك الفترة؟ ما هي عناصر القوّة التي أتاحت للحزب أن يهدّد بردّ فيما كانت إسرائيل تخوض حرب إبادة بالاشتراك مع حلفائها في الأطلسي وفي المنطقة العربيّة؟ هل أنّ الإعلام تحرّك منفرداً (هذا مُستبعَد في حزب مركزي مثل حزب الله) أم أنّ القيادة العسكريّة أوحَت للإعلام؟ والمقطع بحدّ ذاته لم يكن مناسباً لشخص نصرالله لأنّه استخدم ظهوره القصير لأهداف دعائيّة مباشرة.

لكنّ الحزب لم يكتفِ بذلك بل زاد عليها في شرائط تُظهر انطلاق الصواريخ من مخابئها. والصور كانت مقلقة لأنّ معرفة المكان من طبيعة الأرض والألوان تدخل في مدارك الذكاء الاصطناعي. لا ندري كيف تحوّل الحزب من تنظيم شديد التمسّك بالسرّية المطلقة إلى حزب منفلش يسمح للتباهي على المواقع أن يطمسَ الحسابات الأمنيّة والاستخباراتيّة. لكنّ الخلل الأكبر كان في سماح الفريق الأمني المحيط بالأمين العام لنصرالله بالظهور على الشاشات في عزّ الأزمة. والظهور كان أحياناً حيّاً على الهواء. ليس هناك أسهل مِن تعقّب بثٍّ تلفزيونيٍّ وترصّده. هذا لا يحتاج إلى جهد أو إلى ذكاء اصطناعي.

والظهور الإعلامي لنصرالله في حرب الإسناد تعامل مع الحرب على أساس أنّ توازن الرعب كان لا يزال قائماً. هل أنّ المحيطين بالأمين العام أخفوا الحقائق عنه أم أنّ الخرق الأكبر لم يكن قد حصل بعد؟ هذه تحتاج إلى لجان تحقيق داخليّة. لم يستطع نصرالله في إطلالاته حشد الرأي العام العربي وراءه. المشاركة كانت أخلاقيّة، كما حذَّر منها ميشال عون لأنّ الأخلاقيّة كمُقرّرة للحرب نادراً ما تصل إلى الفوز. هل أنّ الاختراق الإلكتروني لشبكة الاتّصالات أخفى الحقائق الميدانيّة عن نصرالله؟ لكنّ النزف البشري في جسم المقاومة في الجنوب كان واضحاً منذ الأيّام الأولى لحرب الإسناد.

الحرب لم تكن بهدف عسكري. لم يكن الحزب يتوقّع أن يردّ جيشَ العدوِّ عن غزة، أو أن يوقف العدوان الشامل. كان الهدف تكريسَ وفاء للحليف الفلسطيني المقاوِم. لم تُنفَّذ خطّة اقتحام الجليل، وهي لم تُعرض من قبل. كيف يمكن لجيش المقاومين أن يتقدّم في الجليل من دون غطاء جوّي؟ ألا يستطيع العدوّ أن يمحو التقدّم في دقائق معدودة؟ أم أنّه كان للحزب خطّة لكنّه أحجم عن تنفيذها تفادياً لتوسيع الحرب لأنّ أيادي الحزب كانت مكبّلة في الداخل اللّبناني (وكان الحزب مشغولاً مع الثنائي في الإصرار على ترشيح سليمان فرنجية دون غيره، ما سهّل مهمّة واشنطن في الإتيان بقائد الجيش رئيساً)؟

الحزب على الأرجح كان يريد تسجيل موقف أخلاقي وموقف سياسي لصالحه عند الرأي العام العربي. لكن الهدف فشل فشلاً ذريعاً. حتى بعد شنّ الحرب لم يكن الرأي العام العربي مُلتفتاً إلى الجبهة الجنوبيّة. ولم تغيِّر الحرب من النظرة السلبيّة لنصرالله عند معظم الرأي العام العربي نتيجة التحريض الطائفي المذهبي المؤثّر، ونتيجة التدخّل العسكري للحزب في سوريا واستغلاله مِن قِبل أعداء المقاومة. فرضية شنّ الحرب كانت مغلوطة. لم يكن ممكناً لقائد الحزب أن يشنّ حرب الإسناد لو أنّنا كنّا نعلم أنّ هذه الحرب ستستمرّ سنتَين وأنّ العدوّ، بدلاً من تحجيم نطاق العدوان، سيعمد إلى توسيعها ويقصف سبع دول في المنطقة. كما أنّه لم يكن متوقّعاً أن يكون الراعي الأميركي متساهلاً إلى هذه الدرجة مع الحليف الإسرائيلي. لكن من الظلم أن نركِّز على الإعلام. الميدان (نظراً إلى الاختراق الكبير) كان المصيبة الكبرى بالنسبة إلى الحزب.

(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة