آخر الأخبار

خيمة وسط المطر .. عائلة أبو سمك تواجه قسوة الشتاء والنزوح في غزة

88

في قلب الشتاء القارس، بينما تتساقط قطرات المطر بغزارة على أطراف خيمة مهترئة، يجلس محمد أبو سمك، الأربعيني، مع زوجته وأطفاله الأربعة، يحاولون معًا العثور على بعض الدفء وسط برد قارس لا يرحم، بينما تتسلل رائحة الرطوبة إلى العظام، ويتسرب الماء إلى منتصف الخيمة من كل اتجاه.

قبل الحرب، كانت حياتهم مختلفة تمامًا. في شقتهم الصغيرة في أبراج القسطل شرقي دير البلح، كانت الليالي الشتوية مليئة بالضحك ورائحة السحلب والمهلبية، وأصوات الأطفال تتناغم مع خرير المدفأة. كانت كل زاوية من البيت تحمل ذكريات دافئة، كل ركن يهمس بالأمان والسكينة.

لكن الحرب لم تترك لهم شيئًا. الشقة تحولت إلى أنقاض، والحياة التي عرفوها تبخرت مع انفجارات الصواريخ.

أصبحوا الآن في خيمة غرب دير البلح لا تكفي حتى لحماية الأطفال من المطر الذي يتسرب من كل زاوية، ليذكّرهم دومًا بفقدانهم لكل ما هو مألوف وآمن.

الحنين إلى البيت القديم أصبح حاضرًا في كل لحظة، يظهر في كل حركة، كل نظرة، وكل صوت يخرج من الخيمة الصغيرة. محمد، وهو ينظر إلى أطفاله المتجمعين حوله، يحاول أن يخفف عنهم صدمة الواقع، لكنه لا يستطيع كتمان الحزن في صوته: “كل ليلة المطر يذكرنا بالبيت القديم… بالمدفأة… بالدفء اللي كنا نحس فيه. صعب كتير نحكي للعيال إنو ما في شقة ونعيش بهذا الوضع… بس لازم نصبر”.

زوجته، تجلس بجانبه وتحضن صغيرتها رهف، تحاول أن تخفي دموعها خلف ابتسامة متعبة: “أشوف أولادي يبكون من البرد… يحاولوا يحتموا بأي شيء… وأنا بحاول أخليهم يضحكوا، يلعبوا، ينسوا شوي الألم… قلبي يتقطع وأنا أشوفهم هيك”.

الأطفال، رغم الصعوبات، يحاولون التكيف. نائلة، الابنة الكبرى، تقول بصوت خجول لكنه مفعم بالعزم: “أنا بردانة كتير… بس بحاول ألعب مع أخوتي عشان ما نحزن… ما بدي نشعر بالحزن كل الوقت”.

قصي، الابن الذكر الوحيد، يضحك رغم القشعريرة التي تنتابه: “أنا بحب الشتاء… بس البيت القديم كان أحسن… كنت أقدر أدفى جنب المدفأة وأشوف أختي عم تلعب”.

محمد يراقبهم ويستمد منهم القوة: “نشوفهم يحاولوا يلعبوا ويرجعوا يضحكوا… الأطفال ما بيعرفوا الكآبة بعد… ويحاولوا يحبوا الشتاء كما كانوا يحبوه قبل الحرب… هذا اللي بيخليني أصبر”.

رائحة السحلب والمهلبية، التي كانت تعبق في البيت القديم، لم تعد أكثر من ذكرى بعيدة، لكنها تذكرهم بالأمان المفقود.

أم قصي تحاول أن تصنع لهم شيئًا دافئًا بين الحين والآخر: “أحيانًا أحاول أصنع لهم شيء دافئ… بس الوضع صعب… بحاول أخليهم يحسوا إنو الحياة ما توقفت… وأنو في ضحكة حتى وسط المطر والبرد”.

المطر والبرد لا يقتلان الحلم، لكنهما يختبران صبر الإنسان وقوته. محمد يتحدث عن الأمل الذي لا يموت: “حتى لو كل شيء اختفى… البيت… المدفأة… رائحة المهلبية… الأمل ما بيختفي… راح نرجع نضحك، راح نرجع نعيش، راح نخلق دفء جديد… وهالأولاد هم سبب وجودي وقوتي”.

وفي لحظة صمت، تضيف نائلة بصوتها الطفولي: “حتى لو الدنيا كلها مطر وبرد… إحنا مع بعض… ونقدر نضحك… ونلعب… ونحب بعض”.

وعندما يتوقف المطر للحظات، يجلس محمد وزوجته يراقبان أطفالهما وهم يلعبون داخل الخيمة، ابتسامة حزينة ممزوجة بالفرح ترتسم على وجهيهما: “هالأولاد هم حياتنا… هم اللي بيعطونا القوة نكمل… مهما صار… الدنيا ما رح توقفنا… ونرجع نبني بيتنا من جديد… مع بعض، مهما كانت الظروف صعبة”.

القصة هنا ليست مجرد سرد لحياة عائلة نزحت وشردت عن منزلها وحياتها بسبب الحرب، بل شهادة على صمود الأطفال، شجاعة الأب، قوة الأم، وقدرة الإنسان على الحب والفرح رغم الألم، وعلى استمرار الأمل حتى في أقسى الظروف.

 

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة