آخر الأخبار

مجزرة عين الحلوة: طوفان الشتات في معركة التحرير

img_1763556168748_1

محمد الخطيب

عين الحلوة ليس مجرد مخيم للاجئين، بل هو حصن مقاومة ينبض بروح النضال الفلسطيني في قلب الشتات. يمثّل المخيم عنواناً لمقاومة مستمرة ضد قمع الاحتلال والأنظمة الطائفية في لبنان، وصامداً رغم الألم والخسائر التي يتكبدها شعبنا في الأرض المحتلة وفي الشتات. دماء شهداء عين الحلوة «أقمار الشتات»، تكتب فصول مرحلة كفاح جديدة، تؤكد أن طريق التحرير والعودة مستمر بلا تراجع، وأن الشتات الفلسطيني قادر على حمل شعلة الثورة ويشكّل خط الدفاع الأول عن قضيتنا ومشروعنا الوطني.

شهود الدم في عاصمة الشتات

مجزرة عين الحلوة لم تكن الأولى في تاريخ أهل المخيم وليست مجرد رقم جديد في سجل الجرائم الصهيونية ضدهم، بل كانت دليلاً على عمق الجرح وامتداده من غزة إلى قلب الشتات، إذ ارتقى 14 شهيداً، جلّهم من الأطفال، أصولهم من قرى نعرفها جيداً، قاتل أهلها في حطين وعرب الغوير وسحماتا وغيرها من بلدات الجليل. هؤلاء الشهداء هم امتداد لعائلات قدّمت شهداء وأسرى وجرحى في أبرز محطات نضال شعبنا في الشتات، ودافعت عن الثورة الفلسطينية بالدم والعذابات وقدمت كل ما تملك لمشروع التحرير والخلاص، ما يجعل من دمهم حلقة جديدة في سلسلة طويلة من التضحيات المتواصلة منذ النكبة وحتى اليوم. بهذا المعنى، إنّ أطفال المخيم وشبابه الذين يحملون على أكتافهم ذاكرة قراهم المسلوبة، يحوّلون المخيم إلى مساحة جغرافية تتقاطع فيها الجريمة الصهيونية مع عهد متجدد بمواصلة طريق التحرير والعودة.

القمع اليومي وسياسات الإذلال

لا يمكن قراءة هذه المجزرة المؤلمة بمعزل عن البيئة القمعية التي يعيشها أهالي عين الحلوة وبقية المخيمات الفلسطينية في لبنان. فسياسات الحصار والتضييق وسلب الحقوق المدنية والاجتماعية، سياسة عنصرية تتمثّل في عقوبات جماعية يومية تمارسها الدولة اللبنانية الطائفية ومؤسسات تدعي أنها حاضنة للاجئين، كما يحدث في مدارس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، حين يُعاقب طفل أو طفلة بسبب ارتداء الكوفية الفلسطينية بحجة منع الشعارات والرموز السياسية داخل المؤسسات. هذه الحوادث ليست عابرة، بل هي جزء من منظومة أوسع تستهدف المعلمين والكوادر الوطنية بالطرد والفصل ومصادرة حرية التعبير عن الرأي وعن الهوية الفلسطينية، عن دعم المقاومة والتمسك بالثوابت الوطنية.

هذا الحصار الخانق على المخيمات يجعلنا نستعيد ذاكرة «المكتب الثاني»، إذ إن ما يحدث في عين الحلوة يتقاطع مع سياسات مشابهة في مخيمات أخرى كالبداوي والرشيدية، حيث يتم إغلاق المداخل، وبناء جدران الفصل العنصري، وتشديد القيود على حركة الناس، وتحويل المخيم إلى مساحة أمنية محاصرة تحت ذرائع مختلفة. هذه الإجراءات تعيد إلى الأذهان ممارسات حقبة «المكتب الثاني» في الخمسينيات والستينيات حين كان يُمنع اللاجئون من ممارسة العمل الوطني أو حتى التعبير عن هويتهم الوطنية وأبسط حقوقهم الإنسانية، تحت طائلة الاعتقال والتعذيب والإهانة. اليوم، يبدو أن المخيمات تعود إلى دائرة العقاب الجماعي نفسها، ولكن في سياق إقليمي ودولي جديد تحاول فيه قوى معادية للقضية الفلسطينية دفع اللاجئين إلى اليأس والتهجير مجدداً.

لم ولن ينسى أهل سهل الحولة وشمالي فلسطين المحتلة أن نواف سلام، رئيس الوزراء اللبناني الحالي، الذي يلهث لمحاصرة المقاومة اللبنانية وتسليم السلاح والتخلي عن أهل الجنوب وعن شهداء وجرحى وأسرى المقاومة اللبنانية، هو نفسه حفيد الإقطاعي الذي باع أراضي أهلنا الفلاحين في فلسطين إلى «الوكالة اليهودية» مقابل حفنة من الأموال.

المخيم… مجتمع مقاوم لا ضحية صامتة

رغم المجزرة الموجعة وسياسات الحصار العنصرية، يقدّم مخيم عين الحلوة والمخيمات الأخرى صورة مجتمع مقاوم لا ضحية صامتة. التظاهرات الغاضبة، والتشييع المهيب للشهداء، وفتح بيوت العزاء والتبريك في مخيمات لبنان كافة أثبت ذلك. دور الشباب في أخذ زمام المبادرة والاستعداد للانخراط في العمل الوطني والتعبير عن الغضب، كلها تعبيرات عن وحدة الدم ووحدة المصير بين أبناء الشتات وأهل غزة والضفة وسائر أماكن الوجود الفلسطيني. هذا المشهد يؤكد أن المخيم، كمجتمع سياسي وثقافي هو حقيقة لن تنتهي وهو فلسطين الصغرى التي ما تزال تنبض فيها روح المقاومة، والالتزام الوطني والديني في سبيل الحرية، وأن الشتات لن يكون إلا وقوداً لتجديد العهد بالنضال من أجل فلسطين كاملة وحرية من دون شروط.

طوفان غزة وصوت الشتات

إن الطوفان الهادر الذي انطلق من غزة المحاصرة لم يكن قراراً فصائلياً فوقياً، بل تعبيراً عن قرار شعبي فلسطيني بأن زمن الاستسلام قد انتهى وأن الطريق إلى الخلاص والتحرير يمر عبر المقاومة، كائناً ما كانت كلفة المواجهة.
صوت غزة ارتد صداه في مخيمات الضفة والشتات ليقول إن الشعب الفلسطيني ما يزال بخير، وإن جيلاً صاعداً يتشكل اليوم يحمل مشروع العودة والتحرير في قلبه وعقله. هذا الجيل يواجه فساد الممولين وتدخل القوى الغربية ومحاولات تفتيت حركة التحرر الفلسطينية من الداخل، لكنه يستند في الوقت نفسه على إرث الشهداء والقادة والأجيال السابقة، ويبني ويراكم على تاريخ نضالي كبير في الداخل وفي الشتات معاً يعي أن الحرية والكرامة والخبز والصحة تبدأ من التحرر من الاستعمار والهيمنة الصهيونية الغربية، بما يجعل من كل مخيم وكل تجمع فلسطيني ساحة اشتباك سياسي وأخلاقي مع المشروع الصهيوني الاستعماري.

أزمة المشروع الصهيوني وفضح بنيته الاستعمارية

يترافق صمود شعبنا في غزة والمخيمات مع حالة تضامن دولي وشعبي مع القضية الفلسطيني لم نشهدها منذ النكبة، الأمر الذي يضع الكيان الصهيوني ومجتمعه العنصري المريض في موقع العزلة والحرج أمام الرأي العام العالمي. مع كل ضربة للمقاومة ومع كل اعتداء صهيوني على شعبنا تتعرى الرواية الصهيونية أكثر من أي وقت مضى، ويبدو المشروع الاستعماري في فلسطين المحتلة في حالة تفكك وانكشاف داخلي وخارجي: تناقضات عميقة في البنية الاجتماعية والسياسية داخل كيان العدو، تصدع في جبهته الداخلية والعسكرية، وضغوط متزايدة من حركات المقاطعة والمحاكم الدولية ومنظمات حقوق الإنسان والحركات الشعبية حول العالم.

في هذه اللحظة التاريخية، يعمل الاحتلال على خلق معادلات ردع جديدة نراها في استهداف مخيم عين الحلوة والمخيمات الأخرى والإمعان في القتل والتدمير وهي محاولة نقل المعركة إلى خارج حدود فلسطين المحتلة وخارج حدود العقل، كلها محاولات فاشلة للالتفاف على عمق الأزمة البنيوية التي يعيشها الكيان.

الشتات… من التضامن إلى الشراكة في مشروع المقاومة

في هذا السياق، يطرح سؤال الشتات نفسه بقوة: هل يُراد للفلسطينيين في المنافي أن يبقوا مجرّد جمهور متعاطف ومتضامن مع شعبه في الوطن المحتل كما أرادت «أوسلو» وكل مشاريع التصفية؟ أم أننا مكوّن أساسي من مكوّنات مشروع التحرير والمقاومة؟ اللحظة التاريخية التي نعيشها تفرض علينا في الشتات العودة إلى دورنا الطبيعي بوصفنا جزءاً لا يتجزأ من الحركة الوطنية الفلسطينية، وامتداداً جغرافياً وبشرياً واقتصادياً وثقافياً وذراعاً طويلة لجبهة المقاومة داخل فلسطين. هذه المرحلة تتطلب من الشتات أن يحرّر صوته ويتخلص من قيود الرقابة والابتزاز، وأن يفكّ ارتباطه ببنى سلطة أوسلو والتنسيق الأمني وأوهام الدولة، والعودة إلى الثوابت وخط التأسيس الأول: بناء حركة تحرر شعبية مسلحة عابرة للحدود وقادرة على ملاحقة العدو في كل مكان.

نحو إعادة بناء الأطر الوطنية في الشتات

استعادة دور الشتات لا تعني فقط رفع الشعارات أو تنظيم الفعاليات الرمزية على أهميتها، بل تتطلب إعادة بناء مؤسسات فلسطينية وطنية في المخيمات والمدن والبلدان التي يتواجد فيها اللاجئون. في عين الحلوة وشاتيلا والرشيدية والبداوي، وفي شوارع بروكسل وبرلين ونيويورك، تتبلور اليوم نواة قيادية شابة من الرجال والنساء، قادرة على حمل مسؤولية شعبها، وقيادة الحالة الوطنية في الشتات على أساس مشروع مقاوم ديموقراطي متجذر ينطلق من المخيمات إلى العالم، مشروع مقاوم مستقل عن منظومة أوسلو والمؤسسات المانحة والدول الاستعمارية. هذه القيادات الصاعدة، التي تُراكم الخبرة في العمل الميداني والاجتماعي والسياسي، يمكن أن تشكل قاعدة ثورية لإعادة تشكيل أطر تمثيلية جديدة تتناسب مع مستوى التضحيات التي يقدّمها الشعب الفلسطيني.

في هذا السياق يأتي تنظيم الذات كجواب ضروري على العنصرية وسياسات الحصار والقمع التي تُمارَس على الفلسطينيين وتحديداً في المخيمات وتجمعات اللجوء الجديدة، حيث لا يمكننا تجاهل التغير الديموغرافي والاجتماعي والطبقي في المجتمع الفلسطيني خارج حدود فلسطين المحتلة ودور اللاجئين الفلسطينيين في المنافي البعيدة وتحديداً في أوروبا وأميركا ومراكز الدعم والإمداد للكيان الصهيوني. كل هذه التجمعات الفلسطينية يقع على عاتقها اليوم أن ترد على الإبادة وأن تستجيب إلى نداءات المقاومة بمزيد من التنظيم الذاتي وتعزيز البنى الشعبية واللجان الأهلية والأطر النقابية والشبابية والنسوية ولجان الحماية الشعبية.

كل محاولة لخنق الفلسطينيين في المخيمات والعالم، ثقافياً وأمنياً أو اقتصادياً، تثمر شبكات تضامن داخلية وأطراً نضالية أقوى وإصراراً أشد على التمسك بالهوية والذاكرة وحق العودة. عين الحلوة، بوصفه «عاصمة الشتات» في لبنان، يختصر هذه المعادلة: مخيم محاصر ومجروح، لكنه في الوقت نفسه مخيم يفيض بالحياة وروح الشباب والمقاومة، يرى في دم شهدائه طوفاناً قادماً يفتح طريقاً نحو وطن لم يغب يوماً عن الوجدان، وإن غاب عن الجغرافيا.

* كاتب وناشط فلسطيني

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة