آخر الأخبار

الزمن الفلسطيني بين المصادرة والترويض

9f62edc6-45f3-4cc1-9a03-a0a286fa970e

ياسر قطيشات

منذ ثلاثة عقود يعيش الفلسطينيون في منطقة رمادية بين الحرب والسلام، بين الوعود المؤجّلة وبين الوقائع التي تتقدمّ بلا استئذان، ثمّ يأتي قرار مجلس الأمن الجديد بشأن قطاع غزّة ليُضيف طبقة أخرى من هذا الالتباس التاريخي؛ قرار يبدو في ظاهره دعوة إلى إيقاف النزف الإنساني، لكنه يحمل في عمقه محاولة لإعادة تعريف القضيّة الفلسطينية ضمن معادلة جديدة: لا حرب كاملة، ولا حرية كاملة، بل إدارة مُحكمة للزمن الفلسطيني حتى يستنفد طاقته السياسية.

منذ مدريد وأوسلو، تشكّل نموذج سياسي يقوم على فكرة “السلام بدلاً من الحق”؛ سلام يتطلّب تغيّر الذات قبل تغيّر شروط الاحتلال، ويفترض أنّ الواقع يمكن تشكيله عبر أدوات تقنية وعمليات تفاوضية حتى لو كانت الجغرافيا تُبتلع والهُويّة تتشظى.

قرار مجلس الأمن الأخير ليس إلا امتداداً لهذا الإرث، لكنه يأتي في زمن انهارت فيه كلّ أقنعة التسوية وباتت الوقائع أشدّ فجاجة ممّا تحتمله لغة الدبلوماسية.

إنّ جوهر الخديعة الجديدة لا يكمن في البنود ولا المؤسّسات ولا الهياكل التي يجري الحديث عنها، بل في الفلسفة التي تستبطنها: تحويل الشعب من صاحب حقّ إلى “موضوع إدارة”، وتحويل الصراع من قضية تحرّر إلى “ملف استقرار”، وتحويل المستقبل من أفق مفتوح إلى جدول زمني مُراقَب من الخارج.

كلّ تسوية كانت تُدار لتأجيل الحقّ، وكلّ مُبادرة كانت تُقدّم على أنها “الفرصة الأخيرة”

الفلسطينيون، عبر تاريخهم الحديث، لم يُهزموا فقط بالجيوش، بل أيضاً بالوقت، كلّ تسوية كانت تُدار لتأجيل الحقّ، وكلّ مُبادرة كانت تُقدّم على أنها “الفرصة الأخيرة”. والقرار الجديد يعيد إنتاج اللحظة نفسها: تجميد الزمن الفلسطيني لسنوات إضافية، في انتظار إصلاحات أو ترتيبات أو توازنات لم تولد بعد، بينما الزمن الإسرائيلي يتقدمّ بخطى ثابتة على الأرض.

إذا كانت أوسلو قد صادرت الحاضر باسم “وعد الدولة”، فإنّ القرار الجديد يصادر المستقبل باسم “وعد الاستقرار”، وبين المصادرتين تضيع الإرادة السياسية ويتآكل المعنى الوجودي لقضية كانت تعريفاً للحرية في المنطقة.

كلّ وصاية تُقدّم نفسها إنقاذاً، هكذا فعل الاستعمار القديم حين تحدّث عن “تمدين الشعوب”، وهكذا تفعل القرارات الدولية حين تتحدّث عن “حماية المدنيين”، لكن ما يبدو إنقاذاً قد يتحوّل، إذا غابت الإرادة والمقاومة، إلى شكل جديد من الهيمنة: هيمنة لا تُمارس بالسلاح فحسب، بل عبر ضبط الحاجات، وتحديد المسموح من السياسة، وتحديد شكل المجتمع المُمكن.

القرار الأممي الأخير يطرح سؤالاً فلسفياً أكثر منه سياسياً: هل يمكن لمشروع تحرّري أن يستمر حين تُسلب منه القدرة على تعريف ذاته؟ حين يصبح مستقبله مرهوناً بإرادة القوى التي ساهمت في تشكيل أزمته؟ هذا هو جوهر الخوف الفلسطيني: ألا يتحوّل القرار إلى جسر نحو الحرية، بل إلى سقف نهائي لها.

ما يبدو إنقاذاً قد يتحوّل، إذا غابت الإرادة والمقاومة، إلى شكل جديد من الهيمنة

العالم اليوم مرهق من الحروب، يريد “نهاية للصراع”، لكن نهاية الصراع لا تعني بالضرورة بداية العدالة، هناك فارق جذري بين إغلاق ملف وفتح أفق، القوى الكبرى تريد نظاماً إقليمياً مُستقرّاً، وإسرائيل تريد حسماً تاريخياً لموازين القوى، والدول المُتردّدة تريد إخراج نفسها من الحرج الأخلاقي. وحده الشعب الفلسطيني يريد معنى لوجوده: كرامة، أرض، هوية، مستقبل.

والمفارقة أنّ اللحظة التي بدت فيها إسرائيل معزولة أخلاقياً على مستوى العالم قد تتحوّل، بفضل هندسة سياسية دقيقة، إلى لحظة إعادة تأهيل عبر قرارات دولية تُجمّل الواقع ولا تُغيّره.

المستقبل القريب سيشهد صراعاً بين رؤيتين للزمن: زمن خارجي يريد تثبيت واقع سياسي واجتماعي جديد، يقوم على ضبط الحركات، وإغلاق بيئات المقاومة، وتحويل غزّة إلى مساحة يمكن التحكّم بها من بعيد. وزمن داخلي يريد استعادة المبادرة، ويرفض أن يتحوّل الشعب إلى مجرّد متلقٍّ لقرارات صيغت فوق رأسه.

“سلام” يطلب من الضحية أن تتكيّف مع شروط القوّة لا أن تنال حقّها!

هذا الصراع الوجودي هو ما سيحدّد مآلات القرار، فإذا استطاع الفلسطينيون إعادة تعريف اللحظة التاريخية باعتبارها فرصة للحشد الوطني واستعادة الإرادة، فإنّ أيّ وصاية ستتآكل من داخلها، أما إذا جرى التعامل مع المرحلة بوصفها “عابراً لا بدّ منه”، فقد تتشكّل بنية سياسية جديدة تتعايش مع الانقسام، وتتعايش مع غياب الدولة، وتتعايش مع تأجيل الحرية إلى ما لا نهاية.

ليس الخطر في القرار نفسه، بل في رؤيته للسلام: سلام بلا مساواة، بلا ذاكرة، بلا مسؤولية تاريخية، سلام يطلب من الضحية أن تتكيّف مع شروط القوّة لا أن تنال حقّها، والسؤال الجوهري اليوم ليس: ماذا ينصّ القرار؟ بل أيّ معنى يريد العالم أن يمنحه للسلام؟ وأيّ معنى يريد الفلسطينيون أن يمنحوه لوجودهم؟

إنها معركة على تعريف المستقبل، وليست خلافاً على بنود، وبين الخديعة والأمل، سيبقى السؤال مفتوحاً: هل سيكون هذا القرار لحظة انطفاء جديدة أم بداية استعادة الزمن الفلسطيني المسلوب؟

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة