آخر الأخبار

“الجيش” والساسة على صفيح ساخن: تبعات فشل “جدار أريحا”

حسن-لافي-عملية-ديزنغوف

حسن لافي

كاتب فلسطيني مختص بالشأن الإسرائيلي

تشهد “إسرائيل” واحدة من أكثر الأزمات تعقيداً بين المستوى السياسي والعسكري منذ سنوات، على خلفيّة الخلاف المتصاعد بين وزير “الجيش” يسرائيل كاتس ورئيس الأركان إيال زامير. ويأتي هذا التوتر في قلب النقاش الداخلي حول الإخفاقات التي سبقت هجوم 7 أكتوبر، ومسؤولية كلّ من الحكومة و”الجيش” عن هذا الفشل.

قد تكون خطة “جدار أريحا”، نقطة تفجير للخلاف، هذه الوثيقة الاستخباراتية، التي حصلت عليها شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” في نيسان/أبريل 2022، والتي تضمّنت سيناريو دقيقاً وضعته حماس لهجوم واسع يشمل اختراق الحدود، تعطيل المراقبة، واقتحام القواعد والمستوطنات.

ورغم دقّة الوثيقة، فقد اعتبرها “الجيش” سيناريو غير قابل للتنفيذ، ما أدّى إلى تجاهلها كليّاً، في واحدة من أهمّ حلقات الفشل التي سبقت هجوم 7 أكتوبر.

رغم أنّ الواضح من الخلاف بين كاتس وزامير، أنه صراع على المسؤولية والصلاحيات حول:

1. محور التحقيقات

يدفع كاتس نحو تحقيق مستقلّ وشامل يدرس أسباب تجاهل الوثيقة، منتقداً الاكتفاء بالتحقيق العسكري الداخلي (لجنة الجنرال سامي تورجمان).

2. صراع الصلاحيات

يعتبر زامير أنّ محاولات كاتس فرض رقابة حكوميّة على التحقيقات العسكرية من خلال دور مركزي لمراقب عامّ “وزارة الجيش”، تمثّل تغوّلاً سياسياً على المؤسسة العسكرية وتعدّياً على صلاحيات رئيس الأركان.

3. المساءلة والشفافية

بينما يطالب كاتس بمحاسبة الضباط الذين تجاهلوا التحذيرات، يصرّ زامير على إدارة التحقيق داخل “الجيش” من دون تدخّل سياسي مباشر، وألّا تكون تلك التحقيقات مساحة تدخل في الترقيات وإعادة بناء هيكلة “الجيش” بحسب المصالح السياسية الحكومية.

لكنّ جوهر الخلاف، هو حول استقلالية “الجيش” الإسرائيلي، وصلاحية رئيس الأركان كقائد عامّ لـ “الجيش”، ودور المؤسسة العسكرية في صنع قرارات الأمن القومي. لذا يرى إيال زامير ـــــ الذي كان مدير عامّ وزارة الدفاع وقت هجوم 7 أكتوبر ولم يكن مسؤولاً عن القرارات العملياتية ـــــ أنّ “الجيش لا يتحمّل المسؤولية عن الفشل الذي سبق الهجوم وحده”. ويؤكّد أنّ “الجيش” يتعرّض لمحاولة هيمنة سياسية من جانب كاتس ومن خلفه الحكومة، التي تستخدم نتائج لجنة تورجمان للضغط على هيئة الأركان والتدخّل في اختصاصاتها.

ورغم تحمّل “الجيش” لمسؤولياته وتقديم كبار القادة استقالاتهم، وعلى رأسهم رئيس الأركان الأسبق هرتسي هليفي وأهارون حاليفا رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان”، يارون فينكلمان قائد المنطقة الجنوبية، آفي روزنفيلد قائد فرقة غزة، عوديد باسيوق رئيس شعبة العمليات، يوسي ساريئيل قائد وحدة الاستخبارات العسكرية “8200”، لم يتحمّل المستوى السياسي أيّ مسؤولية حتى الآن، ولذلك يرى “الجيش” أنّ على المستوى السياسي أن يتركه ليعيد بناء ذاته ومعالجة قصوره من دون تدخّل ومحاولات تسييس له.

وفي مواجهة الضغوط الحكومية، فجّر زامير ملفاً حسّاساً حين دعا إلى التحقيق في دور المستوى السياسي في الفشل، خصوصاً ما يتعلّق بـ “عقيدة الاحتواء” التي فُرضت على “الجيش” للتعامل مع حماس، والقائمة على شراء الهدوء بالمال مقابل الاستقرار الأمني. وهي السياسة التي يرى كثيرون أنها ساهمت في تمكين حماس وتعزيز قدراتها التي استخدمت لاحقاً في تنفيذ هجوم 7 أكتوبر.

وهذا يعتبر استدعاء مباشراً لتدخّل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في إنهاء الأزمة، من خلال إثارة مخاوف نتنياهو من لجنة التحقيق الرسمية، والذي حاول إبعاد نفسه عنها من خلال عقده اجتماعات منفصلة مع الطرفين لمحاولة تهدئة الأزمة، والظهور بدور الوسيط، كون دعوة زامير لتشكيل لجنة تحقيق رسمية ومستقلة تهديداً مباشراً لمكانة نتنياهو السياسية والشخصية على حدّ سواء. فمثل هذه اللجنة، على خلاف لجان التحقيق العسكرية أو شبه الحكومية، تمتلك صلاحيات واسعة، بما في ذلك استدعاء مسؤولين سياسيين كبار والتحقيق في قراراتهم الاستراتيجية، وهو ما سيطال نتنياهو بشكل مباشر.

يُنظر إلى نتنياهو على نطاق واسع داخل “إسرائيل” على أنه المهندس الأساسي لسياسة “الاحتواء بالمال” تجاه حماس، القائمة على السماح بتحويلات مالية إلى غزة تحت مبرّر الحفاظ على الهدوء ومنع التصعيد.

ودعوة زامير إلى التحقيق في هذه العقيدة السياسية-الأمنية تعني عملياً فتح ملف مسؤولية المستوى السياسي عن الإخفاقات التي سبقت هجوم 7 أكتوبر، وهو ملف قد يضع نتنياهو في صدارة المساءلة.

لجنة تحقيق رسمية قد تطرح أسئلة حسّاسة، مثل:

هل تجاهلت الحكومة تحذيرات المؤسسة العسكرية؟

هل أثّرت الاعتبارات السياسية الداخلية على تقييم التهديدات؟

هل كانت استراتيجية الاحتواء سبباً في تمكين حماس عسكرياً؟

هذه الأسئلة ليست تقنية أو عسكرية فحسب، بل تحمل ثمناً سياسياً باهظاً لرئيس الوزراء.

تزداد حساسيّة نتنياهو من دعوة زامير للجنة تحقيق رسمية، كونها تتزامن مع معركة أخرى يخوضها نتنياهو على شرعيّة الحصول على عفو رئاسي في قضايا الفساد التي يُحاكم عليها.

ورغم غياب قرار رسمي حتى الآن، فإنّ الجدل يتصاعد حول ما إذا كان الرئيس الإسرائيلي إتسحاق هرتسوغ قد يمنح العفو، وسط تقارير عن تأييد سياسي من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

لكنّ أيّ لجنة تحقيق رسمية قد:

١. تقوّض موقف نتنياهو الأخلاقي والقانوني،

٢. تُضعف حجّته بأنه ضحية اعتبارات سياسية.

٣. تُحرج الرئيس هرتسوغ في حال التفكير بالعفو.

ما يجعل الدعوة للتحقيق تهديداً مباشراً لمستقبل نتنياهو الشخصي وليس السياسي فقط.

إذا أضفنا حساسية التوقيت، فالانتخابات على الأبواب، يزداد الموقف تعقيداً لأنّ الدعوة للتحقيق تأتي في السنة الأخيرة قبل الانتخابات.

وأيّ استنتاج رسمي يشير إلى قصور في إدارة نتنياهو للملف الأمني قد يضرب صورته التقليدية كـ “حارس الأمن القومي”، ويغيّر موازين الرأي العامّ ضدّه في لحظة انتخابية حاسمة، لذا يخشى نتنياهو أن تتحوّل اللجنة المقترحة إلى قنبلة سياسية قد تنفجر قبيل الانتخابات وتعيد تشكيل المشهد السياسي بالكامل.

من منظور نتنياهو، فإنّ دعم زامير لفكرة لجنة تحقيق رسمية يظهر كمحاولة من “الجيش” لدفع المسؤولية نحو المستوى السياسي، بينما تحاول الحكومة أن تبقي التحقيق ضمن أطر عسكرية يمكن السيطرة على نتائجها واتجاهاتها.

ولهذا يرى نتنياهو في خطوة زامير “تمرّداً مؤسساتياً” قد يشجّع قيادات أمنية أخرى على اتخاذ مواقف مماثلة، مما يفتح الباب أمام أزمة ثقة بين “الجيش” والحكومة.

في خطوة لتهدئة الأزمة، اتفق كاتس وزامير على دمج التحقيقات المتعلّقة بأحداث 7 أكتوبر تحت إشراف مشترك، لكنّ هذا الاتفاق لا يخفي حقيقة أنّ جذور الخلاف أعمق بكثير من إجراءات التحقيق نفسها.

وبينما تستمر تبعات هجوم السابع من أكتوبر في إحداث هزّات عميقة داخل مؤسسات الحكم في “إسرائيل”، يبقى السؤال الأكبر مفتوحاً: إلى أين تتجه العلاقة بين “الجيش” والأجهزة الأمنية من جهة، والطبقة السياسية من جهة أخرى؟ فمحاولات الساسة توسيع نفوذهم داخل المؤسسة العسكرية تحت ذريعة المحاسبة على الفشل الأمني تثير مخاوف من تحوّلٍ بنيوي يمسّ استقلالية “الجيش” وهيبة أذرع الأمن.

ومع عجز المستوى السياسي حتى الآن عن تحمّل أيّ مسؤولية مباشرة، مقابل تحمّل “الجيش” العبء الأكبر من النقد والاستقالات، تتصاعد الشكوك حول ما إذا كانت هذه التحقيقات وسيلة للشفافية أم أداة لإحكام السيطرة. فهل ستتجه “إسرائيل” نحو إعادة تعريف العلاقة بين المؤسستين على أسس جديدة أكثر تسييساً؟ أم سيؤدّي الضغط الداخلي إلى تشكيل آلية مستقلة تمنع تغوّل السياسة على الأمن؟

أسئلة تبقى من دون إجابات واضحة، لكنها تعكس حجم التحوّلات العميقة التي تشهدها “إسرائيل” بعد أكبر فشل أمني في تاريخها الحديث، وتحمل في طيّاتها بوادر صراع طويل قد يعيد رسم ملامح القوة والسلطة داخل الكيان.

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة