آخر الأخبار

الاستقواء في أخطر مراحله

1

سعد الله مزرعاني

المحطة أو الموجة الراهنة من الاستقواء بالخارج، البعيد والقريب، ليست أمراً طارئاً أو استثنائياً، في المشهد السياسي اللبناني. تقتضي أي مراجعة تاريخية الرجوع، على الأقل، إلى أواسط القرن التاسع عشر. تبلورُ لبنان ورسوَه على حالته الراهنة، استند، بشكل شديد الوضوح، إلى تفاعل العوامل الداخلية والخارجية بدور أكبر وأفعل للثانية. العامل الخارجي استمر حاضراً بقوة في تكوين لبنان المعاصر، وغالباً بالتحكم في العلاقات والتوازنات بين مكوناته. نكتفي بإيراد عناوين بعض المراحل والمحطات الصاخبة الدلالة في هذا الصدد.

إحدى أكبر وأبرز المحطات، ذات الطابع التأسيسي، تعود إلى الحقبة الممتدة منذ أواسط القرن التاسع عشر (أي تفاقم وهن السلطنة العثمانية وتحولها إلى «الرجل المريض» (دور القناصل والحمايات ونشوء «القائمقاميتين» و«المتصرفية»)، إلى انتهاء الحرب العالمية الأولى بهزيمة العثمانيين وانتصار «الحلفاء» الغربيين (إعلان دولة «لبنان الكبير»).

أُعلن «لبنان الكبير» عام 1920، برعاية وإدارة الاستعمار الفرنسي، في سياق فرض تحولات تأسيسية في المنطقة العربية متداخلة، خارجياً ومحلياً، بالتوازي مع مشروع اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها (برعاية الانتداب الاستعماري البريطاني). إسرائيلياً، لعبت «الوكالة اليهودية» الدور الأبرز في نشوء الكيان الصهيوني وفي اختيار فلسطين وشعبها ضحية لذلك المشروع الإرهابي. في لبنان، لعبت النخب السياسية والتجارية والكنسيّة المارونية الدور المحلي المبادِر والأبرز. نشأ، منذ البدايات، نزاع بشأن مبدأ الانضمام إلى «لبنان الكبير». جزء من سكان المناطق والأقضية «المضافة»، ساحلاً وبقاعاً، طالب بالانضمام إلى سوريا.

انطوت عملية التأسيس والتكريس على امتيازات وأرجحية مخلة. تكامل ذلك مع جهد وإصرار على إضفاء طابع هوياتي مرجعي على «لبنان الكبير» عبر الانتماء إلى الغرب: سلوكاً وثقافة وسياسة واقتصاداً… المستعمر تحوَّل إلى «الأم الحنون». الرعاية أصبحت جزءاً ومكوناً رئيسياً من التأسيس وتوفير شروط الثبات والاستمرارية بالتبعية. التبرير النظري الأيديولوجي تبلور سريعاً: لبنان «إذا استقل اهتز»، كما عبَّر أحد أركان «الجبهة اللبنانية» المنظّر السياسي إدوار حنين، وكما روَّج قبله المفكر والمصرفي ميشال شيحا.

مع تحولات دولية وإقليمية جوهرية أطلقتها نتائج الحرب العالمية الثانية في حقول الاقتصاد والسياسة والعلاقات، قفزت واشنطن إلى موقع الصدارة الاستعمارية في العالم. لم يتردد كميل شمعون، ثاني رئيس الجمهورية والمرتبط بلندن وواشنطن، في الانضمام إلى «حلف بغداد» و«مشروع أيزنهاور»: لمواجهة «المد» الناصري التحرري. كذلك سارع إلى استدعاء «الأسطول السادس» الأميركي لـ«الاستقواء» به على معارضي سياسته الخارجية ومحاولته تجديد ولايته خلافاً للدستور، وبوسائل التزوير والقمع. اهتز الوضع اللبناني: توتر واحتراب أهلي وضعت حداً لهما تسوية سياسية انطوت، عبر الرئيس فؤاد شهاب، على جرعة إصلاح جزئي أُطيح بها، تباعاً، لحساب تعزيز التحاصص وتعميمه.

الخلل تمثّل دائماً في رفض نظام المواطنة المتساوية بادعاء أن لبنان «طائفي» بطبيعته، وأن الطائفية و«الامتيازات» هما ضمانتا وجود وحقوق، وليستا عامل تمييز واحتكار، أو عنوان غلبة وأفضلية! تطورات ومصالح متنوعة، محلية وخارجية، وفّرت إجماع كل القوى الممثّلة في «الصيغة اللبنانية» على تبني نظام «الكوتا الطائفية». توسّع وتعزّز عامل الاستقواء بالخارج كعنصر بنيوي في المحافظة على «الصيغة» الطائفية وفي إدامتها: أداة للبورجوازية الكبرى وبقايا الإقطاع السياسي في السيطرة على السلطة، أو في تثبيت أو تغيير توازناتها.

عام 1982 كانت المحطة الثانية الأساسية في عدم الاستفادة من دروس الماضي، وفي تفجير حرب أهلية مديدة ودامية، متداخلة العوامل والعناصر المحلية والخارجية. نظر الطرف الممسك بالسلطة والضليع في الاستقواء، إلى الدور الفلسطيني بوصفه فقط عامل إخلال بالتوازن السياسي والديموغرافي. توسّل أوّلاً، المنافس السوري، حين امتنع العدو الإسرائيلي عن التدخل العسكري الواسع في السنوات الأولى من الصراع. واشنطن دخلت بقوة على المسرح اللبناني «وسيطة» (عدّة وسطاء أبرزهم فيليب حبيب) وصاحبة خطة متكاملة كان أبرز بنودها الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.

أدّى الغزو إلى فرض انتخاب بشير الجميل (ثم أخيه) رئيساً للجمهورية، في امتداد علاقات تسليح وتدريب، وتشجيع ورعاية إقامة «دويلة سعد حداد»، ثم أنطوان لحد، على أجزاء من أقضية الجنوب الحدودية. «حلم» ومشروع قائد «القوات اللبنانية» الكتائبية بشير الجميل، سقط بالاغتيال، اتفاق 17 أيار وُلد ميتاً، لم يُبرم أو يكمل السنة تحت ضربات مقاومة عسكرية وشعبية واسعة ومنتصرة تُوّجت بانسحاب إسرائيلي مُذِل وشبه كامل عام 2000. الهزيمة القاسية لحقت أيضاً بالقوات الأطلسية «المتعددة الجنسيات» التي واكبت الاحتلال الإسرائيلي بالدعم والحماية: كانت تجربة استقواء مريرة استمرت مفاعيلها حتى عام 2005.

في مواجهة مشاريع فرض إسرائيل على المنطقة وتصفية قضية وحقوق الشعب الفلسطيني، بإدارة واشنطن وبمشاركة وتواطؤ حلفائها وأتباعها، كانت محطة 7 أكتوبر، بعنوان «طوفان الأقصى». تحول الرد بقرار أطلسي/ إسرائيلي إلى حرب شاملة. رئيس حكومة اليمين الفاشي العنصري في كيان العدو أعلن، متوعّداً، إعادة «رسم خريطة المنطقة»، وباشر حرب الإبادة في غزة برعاية واشنطن والغرب الأطلسي. شنَّ حرباً تدميرية شاملة على لبنان على إيقاع «خطة ترامب» القاضية بإدماج الكيان الصيهوني في المنطقة: لاعباً محورياً في تحديد مصائرها في كنف مشروع السيطرة الأميركية الكاملة عليها.

في ظل هذه الخطة تمّ ملء الشغور في موقع رئاسة الجمهورية وتشكيل الحكومة الحالية. القوى اليمينية المتطرفة التي خبرت الاستقواء بالعدو الصهيوني كما أسلفنا سابقاً، وجدت الظرف ملائماً تماماً لصعودها إلى السلطة، في تكرار، لم تكتمل كل شروطه بعد، لتجربتها عام 1982. استئناف الاحتلال وتوسيعه هو موضع الرهان الأساسي لهذه القوى حتى في مواجهة رئيس الجمهورية، ونسبياً رئيس الحكومة.

طبعاً، دون ذلك صعوبات جمّة بالنسبة إلى المحتل وحماته، بعد الخسائر الكبيرة التي مني بها، والمقاومة المشهودة التي واجهته، وعجزه المتكرر عن إحداث اختراق بري جوهري. إلى ذلك، ثمة عامل دولي مهم يتمثَّل في الحملة السياسية والشعبية الهائلة ضد جرائم العدو وارتكاباته الفظيعة وخصوصاً حرب الإبادة. لكن كل ذلك، فضلاً عن خيبات ومرارات التجارب السابقة، لم يدفع هذا الفريق الذي يصر على أنه «سيادي» بامتياز، للتراجع عن رهانه الخاطئ والخطير والمدمر له قبل الآخرين.

الوضع يراوح الآن ما بين الانقسام الجزئي في صفوف الفريق المتعاون مع واشنطن، بشأن الوسائل الممكنة أو المناسبة، وبين التناقض الأساسي حيال مصير لبنان ومستقبله: الخضوع والانصياع لواشنطن وتل أبيب، أم الصمود وإفشال مخططهما، وما يملي ذلك من مواجهة حروب، وفتن داخلية، وخطوات مغامرة مهدّدة لمجمل الوجود اللبناني؟
* كاتب وسياسي لبناني

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة