موسى السادة
«انسجاماً مع حقيقة المعركة القائمة مع العدو الصهيوني منذ 7 تشرين الأول مع طوفان الأقصى»
الشهيد نصرالله
حول تسمية «شهداء على طريق القدس»
«عندما يتفاوض عدوّان يسجّل واحد منهما انتصاره الأوّل على خصمه متى فرض عليه مغادرة بديهياته»
جوزيف سماحة
تكمن المسألة في مفردة «انسجام»، بل ومع «حقيقة»، فلا يمكن لأحد أن يخوض حرباً بلا انسجام واتّساق مع حقيقتها، ولأنها حقيقة فهي شيء يقيني وثابت ومطلق لا يتغيّر ولا يغادر. ولذلك، وبالمنطق، لا يمكن لأحد الانتصار في معركة لم ينسجم فيها مع حقيقتها. وبالممارسة، والشاهد التاريخي، لم تكن انتصاراتنا إلا كلّما زاد انسجامنا مع تلك الحقيقة، انسجام يفصح عن نفسه في خطابنا الأيديولوجي، من الخطب والأناشيد ووصايا الشهداء، والأهم في ممارستنا السياسية. وكلّما قلّ انسجامنا عن هذه الحقيقة، ضعفنا، وهذه هي الحقيقة.
ولأننا في حرب إبادة، فإنّ مسألة الوصول إلى الحقيقة مسألة هزيمة ونصر، وجود وفناء، فهنا تمسي الحقيقة غاية ووسيلة في آن. ولذلك، لا يمكن أن يقال إن الابتعاد عن الحقيقة حيلة ووسيلة للوصول إليها، بل، وأيضاً من الشاهد التاريخي، أنه كلّما زاد الغلوّ والعناد والتمسّك فيها، أثبتت من جديد نجاعتها كوسيلة. وكلّما زاد التلبّس بالحيلة والمناورة أمست هي -أي اللَّاحقيقة- اللباس.
نحن نستطيع أن نتثبّت من وجود هذه الحقيقة لأننا حقّقنا انتصارات في مراحل ومعارك مع العدو، ولم يكن ذلك ليكون لو لم تكن هنالك حقيقة، وأننا لم نقترب منها. إذاً هي موجودة، ودليلنا ودالّتنا عليها انتصاراتنا السابقة. وهذا ما يفهمه العدو، لذا وليحقّق هزيمتنا فأول جهده أن فرض مغادرتنا لهذه الحقيقة، التي أمست بفضل النصر من البديهيات. لذلك، فإن مغادرة البديهية ليست بحيلة بل فخّ. بل حين نجد أنفسنا في وضع نضطر فيه أن نعيد إثبات البديهيات فما ذلك سوى إنذار بأننا نعيش تراجعاً.
إنما ما هي هذه «الحقيقة»؟ إنّ الحقيقة في صراعنا مع الصهيونية، أو أقرب شيء لها، هي المحصّلة المعرفية التي راكمناها من كل انتصار كبير أو صغير، فردي أو جماعي، منذ قرن من الزمن. هي مجموع العبر التي استخلصناها من التجربة والخطأ في سجالنا وجدليّتنا مع العدو. ولأننا حقّقنا انتصارات، وصموداً لمئة عام، فإن درجة معرفتنا لها ليست بالقليلة، بل هي أثمن ما قدّمه لنا الشهداء وأثقل أمانة نحملها نحن منهم.
بصراحة، قد يصبح استحضار الشهيد السيد حسن صعباً، فقد يصبّ ويغذّي نزعة تحويله إلى قدّيس محلي، أي شخصية رمزية ضخمة وحصرية المدى وضيّقة التمثيل، تلك الشخصيات التي يشار إليها بالعظمة والجلال إنما حين سؤال المولعين بها عن فحواها وما مكنون الفكر الذي تمثّله يمسي ذلك بين العموميات والفراغ. وللبنان والجماعات اللبنانية تقليد طويل في صناعة هذه الشخصيات والزعامات، بل لذلك شواهد كثيرة في المشرق. ففي الحالة العربية مفارقة، أن على حرفة صناعة الآباء المؤسّسين أو «الآباء الرمزيين» للجماعات المحلية العربية، أن تستقي هذه الشخصيات الشرعية من السرديات الكبرى من الأممية الاشتراكية والعروبة والإسلام أو حتى تجسيد المُثل الغربية.
خطَّ الشهيد السيد بقلمه قبل عامين، جملة «الشهادة على طريق القدس»، في لحظة زمنية تمثّل ذات لحظة التخلّي في التسعينيات التي برز هو كنقيض لها. فطريق القدس بالمعنى المعرفي والتاريخي هو الإشارة الرمزية إلى عملية التحرّر العربي
لذلك، يلاحظ أن الشخصيات الرمزية للطوائف المحلية تكون شخصيات لها باع طويل في العمل السياسي العربي الكبير فهو المورد الغني بالمشروعية، فترى اشتراكياً أو قومياً أو إسلامياً يجسّد الأب الرمزي لجماعة محلية، أو لقُطرية عربية، فيما يبخس ويظلم تلك الشخصيات.
ذلك ما يجب منع تكراره مع السيد حسن، فالمقاربة التاريخية مع هذا القائد العربي هو أنه ومنذ الألفين وخلال العقدين الأخيرين كان الشخصية الأبرز في تجسيد وتمثيل حقائقنا التاريخية حول الصراع مع العدو الإسرائيلي، وبناء منظومة مبادئنا وبديهياتنا حوله.
من مركزية القضية الفلسطينية والقدس، والحمية والغيرة على تراب فلسطين والشعب الفلسطيني والمسجد الأقصى، إلى الأممية العربية والوحدة الإسلامية، ومصيرية وحتمية الصراع والكفاح المسلح ضد الصهيونية وضد الهيمنة الغربية على وطننا العربي. نجح الرجل في تجسيد وتذخير هذه الحقائق، وتمتين بنائها الأيديولوجي لترقى إلى مكانة المسلّمات وصنع منها ثقافة عامة وأيديولوجيا شعبية رنّانة، وذلك في أسوأ زمن بعد أوسلو وتفجير المشرق بغزو العراق.
هنا تحديداً تكمن رمزيته الرحبة للفضاء العربي والإسلامي، بل الكوني، في تصديره لحقيقة ولبنية فكرية ودين حنيف وحزمة من المبادئ أكبر من شخصه، فاستشهد من أجلها ولم يقبل بشهادة تلك المبادئ ليبقى هو. وهنا العودة إلى أن هذه الحقيقة غاية ووسيلة، وأن الانتقام له من الأوغاد الصهاينة غاية ووسيلة، وأن هذه هي حقيقة المعركة التي علينا الانسجام معها، والعناد الاستراتيجي في التمسّك بهذا الانسجام.
خطَّ الشهيد السيد بقلمه قبل عامين، جملة «الشهادة على طريق القدس»، في لحظة زمنية تمثّل ذات لحظة التخلّي في التسعينيات التي برز هو كنقيض لها. فطريق القدس بالمعنى المعرفي والتاريخي هو الإشارة الرمزية إلى عملية التحرّر العربي والإسلامي بل والبشري ضد الاستعمار والصهيونية، تلك «الأحلام الوردية» التي زرعها السيد عباس الموسوي، فاستيقظ من خلالها الشعب. وهذا ما لا يمكن التخلّي عنه، ويجب التصدّي من خلاله لموسم العودة إلى «الأرزة»، لا انتقاصاً من الأرز على جبالنا العربية على ساحل المتوسط. بل إن «الأرزة» إشارة قوة تافهة وصاخبة في عالمها الصغير نحو الانعزالية الوطنية اللبنانية، التي علّها تقاس بنسبة عدد مايكروفونات مؤتمر حزبي نسبة إلى حضوره. ففي الأخير كل الانعزاليات الوطنية العربية ترى أكبر من حجمها ووزنها الحقيقي من داخلها.
ولا تكمن المشكلة هنا، بل إن المشكلة المصيرية، والحرجة والعاجلة اليوم، أن هذه العودة على تضادّ مع حقيقة المعركة الجارية/القادمة، وتخلّ عن حقيقة الانسجام معها، وهو ما له من تداعيات كارثية، أي تخلّ عن المعركة لمعركة وطنية وهمية نهايتها بكل سيناريواتها هو التطبيع.
إنّ الحقيقة في الصراع سلاح، وطريق القدس حقيقة قبل أن يكون أمانة لشهدائها، من كل أرض وجنسية، وما دون هذه الحقيقة وهم ولا نصر.
* كاتب عربي