وليد شرارة
ما الذي يفسّر «صحوة ضمير» الحكومات الأوروبية حيال حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزة؟ من الضروري، بداية، التذكير بأن الحكومات والدول «وحوش باردة»، وفقاً لتوصيف نيتشه الصائب لها، ما يعني أنها فاقدة للضمير، على عكس شعوبها أو بعض قطاعاتها في الحد الأدنى. السؤال الأصح هو عن الخلفيات والحسابات السياسية «الباردة» التي حدت بالعديد من هذه الحكومات ومؤسسات كالمفوّضية الأوروبية إلى الإعلان في يوم واحد عن مجموعة من المواقف، لا سابق لها، تدين الجرائم الإسرائيلية وتلوّح بـ»إجراءات» بحق الكيان. قد يقول قائل إن الإجراءات المذكورة لا تتعدى «مراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية-الإسرائيلية» لا إلغاءها، مثلاً، أو تجميدها في الحد الأدنى.
الأمر نفسه ينطبق على قرار بريطانيا «تعليق المفاوضات» بشأن اتفاقية التجارة الحرة بينها وبين إسرائيل. القرار الأكثر تقدّماً حتى اللحظة هو ذلك الذي صوّت عليه البرلمان الإسباني والذي يوصي حكومته «بحظر بيع السلاح لإسرائيل». وجاهة هذه الملاحظات لا تلغي حقيقة أننا أمام تغيير كبير في مواقف حكومات كانت في غالبيتها متواطئة مع حرب الإبادة الإسرائيلية أو حتى شريكة فيها، ومن ثم، وبعد أشهر طويلة، بدأت مواقفها تتحوّل وتتمايز عن تلك الإسرائيلية، لتصل الآن إلى حدّ إدانتها بوضوح.
لا ينبغي الاستخفاف، مثلاً، بالمفردات التي استخدمها وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، المصنَّف صديقاً لإسرائيل، عند حديثه عمّا تفعله الأخيرة في غزة، إذ اعتبر أن «العنف الأعمى جعل من غزة مساحة للموت حتى لا نقول مقبرة». بين مثل هذا الكلام واتهام حكومة نتنياهو بممارسة الإبادة مسافة قصيرة جداً. مَن يعرف ما يترتّب على اتهام طرف ما، أيّاً كان، بممارسة الإبادة، وما ينجم عن ذلك من مقارنات مع الإبادة النازية، مع الموقع الذي تحتلّه الأخيرة في فكر التيّارات السياسية الغربية الرئيسية، يدرك خطورة ما يجري بالنسبة إلى الكيان الصهيوني، وليس حكومة نتنياهو وحدها، في أوساط وازنة من الرأي العام الأوروبي. بارو، وقبله ماكرون، لم يلفظا كلمة إبادة، لكنّ عدداً معتبراً من الصحافيين والمفكّرين والمثقفين والفنانين فعلوا ذلك، وستكون لهذا التطور الفكري-السياسي نتائج وخيمة على مستقبل العلاقات مع إسرائيل.
رموز صهيونية بعضها قادم من المؤسسة العسكرية، ولكن مرتبطة بوشائج فكرية وسياسية بنخب القارة العجوز، وبالنخب الليبرالية الأميركية، تعي حجم التداعيات التي ستنجم على صورة وسمعة إسرائيل بسبب حرب الإبادة في الغرب، أكثر من تحالف اليمين الفاشي الحاكم حالياً. يائير غولان، أحد القادة الكبار في الجيش الصهيوني سابقاً، ورئيس الحزب الديمقراطي الإسرائيلي، كان الأجرأ في التعبير عن مخاوف هذه الرموز، عندما رأى «إسرائيل في طريقها إلى أن تصير دولة منبوذة بين الأمم، كما كانت جنوب أفريقيا من قبل… إذا لم تعد إلى التصرف بصفتها دولة عاقلة. والدولة العاقلة لا تشن حرباً على المدنيين، ولا تتخذ قتل الأطفال هواية، ولا تضع أهدافاً لتهجير السكان».
لم يمنع تبنّي الحزب الوطني الحاكم في جنوب أفريقيا لنظام الفصل والتمييز العنصري، الأبارتايد، في عام 1948، من أن يكون حليفاً استراتيجياً لجميع الدول الغربية ولحكوماتها، اليمينية منها واليسارية. برّرت هذه الحكومات هذا التحالف باسم الضرورات الاستراتيجية واعتمدت كذلك على جهل قطاعات واسعة من رأيها العام بحجم الجرائم والأهوال المرتكبة من قبل هذا النظام.
غير أن ضرورات استراتيجية مستجدّة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، متصلة بقدرة المؤتمر الوطني الأفريقي على إطالة أمد المواجهة في مقابله، وتعبئة القسم الأعظم من الشعب ضده، واقتراب الثنائية القطبية من نهايتها، هي جميعها عوامل دفعت القوى الغربية إلى تعديل موقفها مما يجري في جنوب أفريقيا والضغط على نظامها للقبول بحل سياسي يفضي إلى إلغاء الفصل العنصري.
أوّل المؤشرات على تغيّر مواقف الأطراف الغربية كان تعاطي وسائل الإعلام الرئيسية مع الصراع الدائر وتبنّيها مفردات ومفاهيم تسمح بفهم حقيقته، وكذلك، كشفها لممارسات النظام المشار إليه. استفادت تنظيمات وحركات التضامن الشعبية التي ناضلت لمدى عقود لكشف حقيقة نظام الأبارتايد في بلدان الغرب، من السياق السياسي والأيديولوجي والإعلامي الجديد لتصعيد كفاحها وضغطها على صانعي القرار لحملهم على مقاطعة هذا النظام وتكثيف ضغوطهم عليه.
جميع حكومات الغرب كانت متواطئة مع عملية التطهير العرقي المستمرة على «نار هادئة» في الضفة الغربية والقدس، وعلى الحصار المضروب على غزة. اختفت فلسطين ومستقبل شعبها عن جدول الأعمال الغربي وحتى الدولي والعربي، وبات البعض يعتقد بإمكانية تسارع مسار التطبيع مع دول عربية بالتوازي مع التطهير العرقي، وبأن الفلسطينيين سيرتضون الانقراض بملء إرادتهم… ثم أتى «طوفان الأقصى».
شاركت حكومات ما كان يسمّى بـ»الغرب الجماعي» (على الأرجح لم تعد هذه التسمية مطابقة للواقع بعد عودة ترامب إلى الرئاسة)، في حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزة، وإن بدرجات متفاوتة، على المستويات العسكرية-الأمنية، والسياسية-الدبلوماسية، والأيديولوجية-الإعلامية، على أمل أن تحقق هذه الحرب أهدافها بأسرع مدة ممكنة، وفي مقدّمتها اجتثاث المقاومة. لا حاجة إلى الحديث التفصيلي عمّا دار بعد ذلك. الحرب مستمرة حتى اليوم، ورغم الأهوال الناجمة عنها، فشلت إسرائيل في الإجهاز على المقاومة. استمرار هذه الحرب ومخططات التهجير التي تجهر بها حكومة نتنياهو هما اليوم أبرز عاملين لعدم الاستقرار بالنسبة إلى دول حليفة تقليدياً للغرب في الإقليم كالأردن ومصر والسعودية. ليس سرّاً أنّ هذه الدول هي شريك أساسي لبلدان أوروبية عديدة، وفي طليعتها فرنسا، وأنّ زعزعة استقرارها يضرّ بمصالح هذه البلدان.
البحث عن حل سياسي للحرب أصبح ضرورياً للحفاظ على هذه المصالح. غير أنّ عاملاً آخر أسهم، ولا يزال يسهم، في تغيير مواقف المسؤولين الأوروبيين، هو إيغال الكيان الصهيوني في توحّش غير مسبوق، ومكشوف للقاصي والداني في أنحاء المعمورة، وانعكاس ذلك على سمعة حكوماتهم، الحليفة للكيان، وصدقيّتها وحتى مشروعيتها إلى حد ما. لا شك في أن الحكومات الأوروبية ما كانت لترفع سقف موقفها لولا وجود أزمة صامتة بين ترامب ونتنياهو وعدم معارضة الولايات المتحدة لقدر من الضغط على الأخير.
غير أن تبعات المواقف الأوروبية الرسمية، وما سينتج منها من تفاعلات مع الديناميات السياسية والاجتماعية الداخلية لقوى التضامن مع فلسطين ستزيد من عزلة إسرائيل وصيرورتها دولةً منبوذة.
وكما أنّ هجوم «تيت» الذي شنّه ثوار جنوب فييتنام بدعم وإسناد من فييتنام الشمالية، ورغم الأكلاف الهائلة التي تكبّدوها، قد أحدث شرخاً في داخل المركز الإمبريالي الأميركي بين أنصار المضي بخيار الحرب وأنصار التفاوض مع الفييتناميين، وعزّز موقع الأخيرين، فإن بركات «طوفان الأقصى»، وهي حرب الاستقلال الفلسطيني، وبفضل التضحيات الهائلة للمقاومة الفلسطينية ومن وقف معها من حركات مقاومة في لبنان واليمن والعراق، بدأت بالظهور من خلال الشروخ التي تبرز في صفوف الأعداء، والتي سيقود تعاظمها إلى إفشال مشاريع التطهير العرقي والإبادة وفتح آفاق سياسية لنيل الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.
* كاتب من أسرة «الأخبار»