آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [5]

علم_حزب_الله.svg_-1-r5n52ou3nnevvz0vxd4747kjxn1bsg0iaidxyb9zlc-r5y5z2fqft4ip2cwu3e6135yorfw0svt3exil3r9f4

أسعد أبو خليل

بين الانتصاريّة والانهزاميّة (2)
مرحلة منظّمة التحرير كانت بائسة في التعاطي العِلمي والواقعي مع الخطر الصهيوني. ياسر عرفات كان يمثّلُ مدرسة الانتصاريّة الاستعراضيّة الفائقة. بالغَ دوماً علناً بقدرات قوّاته وكان يحاول أن يقلّدَ جمال عبد الناصر الذي كان يسخَر من البريطانيّين بعد العدوان الثلاثي على مصر. والسخرية لم تكن تليق يوماً بخطابيّة عرفات: جعلَته أقرب إلى المهرِّج. قبل 1976، لم يكن عرفات في موقع قيادة منظمة التحرير، لكن «فتح» لم تكن تختلف في اللّهجة الانتصاريّة عن خطاب أحمد الشقيري. بيانات حركة «فتح»، منذ البداية، كانت أضحوكة عندما ترجع إليها.

عرفات كان مسؤولاً إعلاميّاً والمزاعم الخياليّة عن إلحاق الإصابات بالعدوّ نمّت عن نَفَس استعراضي وسَمَ تاريخ الحركة وإعلاناتها العسكريّة، وتحت إشراف مباشر من عرفات (كان يجول بنفسه على الصحف ويوزِّع بيانات الحركة، وأسهم ذلك في خلْق صورة غير صحيحة عن فعاليّة قوّاته). وعرفات لم يكن يتورّع عن نسب عمليّات باقي الفصائل إليها. أراد إثبات الوجود وجلْب التمويل عبر الحضور (ثم الظهور) الإعلامي المكثّف. لم ينافسه أحد في التنظيمات في الاستعراض والبروباغاندا، وإن كان نمطه الدعائي كارثياً على الفعاليّة العسكريّة والتنظيميّة للمقاومة، والأهم على مصداقيّة حركة «فتح».

لم تكن بيانات «فتح» تُصدَّق لأنّ الجميع كان يعلم أنّ القيادة تعلم أنّ الناس لا تصدّق مزاعمها. كان هناك بالفعل عمليّات عسكريّة كثيرة تجري، مِن قِبل «فتح» وباقي التنظيمات، لكنّ الكثير منها كانت تبوء بالفشل، والناجحة منها لم تكن على النجاح المذكور في البيانات العسكريّة. أوّل عمليّة لـ«فتح» كانت فاشلة. قيادة عرفات كانت انفعاليّة وارتجاليّة وكانت العمليّات تُقرّر أحياناً بناء على تقدُّم أو عرقلة في مفاوضات إقليميّة أو دوليّة يجريها. ولم يكن يتورّع عن أن يأمر بعمليّات مناسبات، في هذا العيد الوطني أو ذاك (ولم تكن «فتح» وحيدة في ذلك، إذ جارتْها باقي التنظيمات).

أي إنّ العمليّات لم تكن جزءاً من خطّة (دفاعيّة طبعاً بالحدّ الأدنى) ولم يخطّط عرفات (خلافاً لقيادة نصرالله) في تشكيل قدرة ردْع في جنوب لبنان. كان الانتشار العسكري للقواعد في الجنوب غير مترابط، وكلُّ تنظيم كان يفعل ما يشاء، باستثناء تلك المراحل التي كان عرفات يضبط فيها الحدود لتسجيل موقف أمام الولايات المتحدة. أراد أن يُثبت لها أنّه يمكن الوثوق به لو تمّ التوصل إلى اتّفاقيّة سلام.

لكنّ انتصاريّة «فتح» تضاربت مع النتائج الكارثيّة للهزيمة في 1967. تخبّطت القوى الفلسطينية وطُرد أحمد الشقيري طرْداً من منظّمة التحرير. قد يكون حُمِّل فوق طاقته، لكنّ خطابه التعبوي قبل الهزيمة كان منفصلاً عن الواقع. حضّر الجمهور الفلسطيني لهزيمة ماحقة لإسرائيل. تولّى عرفات قيادة المنظمة في 1969 (بعد فترة انتقاليّة بقيادة يحيى حمّودة).

لكنْ بين صعود عرفات والهزيمة كانت هناك علامة فارقة تمثّلت في «معركة الكرامة» التي خاضها الجيش الأردني بقيادة مشهور حديثة مع الفصائل الفلسطينيّة. هنا، التقط عرفات فرصة لنسْج قصّة (شبه) خياليّة عن دوره ودور حركته، متناسياً الدور المفصلي لمدفعيّة مشهور حديثة في المعارك. «معركة الكرامة» زرعت إيماناً شعبيّاً بقدرات خارقة للمقاومة الفلسطينية (راجع مقالة مايكل هدسون «تطوّرات وإخفاقات في حركة المقاومة الفلسطينيّة، 1967-1971»، «مجلّة الدراسات الفلسطينيّة»، ربيع 1972). هنا فُتحت أبواب التنظيمات أمام الآلاف المؤلّفة من المتطوّعين للانضمام إلى الفصائل، وبالفعل دخلها الآلاف.

واضطرّت كلّ التنظيمات (خصوصاً حركة «فتح» لأنّها جذبت أكبر عدد من المتطوّعين) إلى التخلّي عن الحذر الأمني وعن وسائل التنقية ومراحلها التي كان العضو الجديد يمرّ فيها قبل الانضمام. لكنْ حتى قبل الهزيمة، كانت «فتح» متساهلة في مسألة ضمّ الأعضاء. كانت نشرة «فلسطيننا» تنشر عنوان صندوق بريدي حيث يمكن للمهتمّ أن يُرسل إعلان نيّته في الانضمام. ويعترف هاني الحسن في أحاديثه مع هيلينا كوبان في كتابها المرجعي عن منظمة التحرير أنّ إمكانيّة التنقية أو الاختياريّة زالت بعد «الكرامة».

الحزب أسّس لتجربة فريدة في السرّية المُطلَقة في سنواته الأولى. لم تعلم الناس عن أسماء أعضاء، ولا حتى أسماء قياديّين، ولا حتى عن اسم التنظيم. كانت هناك بيانات بإعلان مسؤوليّة بأسماء اندثرت

عرفات الذي كان منذ البدايات يعاني من إفراط في النَفَس الانتصاري والمبالغة غير العلميّة، أصبح مضطرّاً بعد 1967 إلى زيادة منسوب الانتصاريّة للتعامل مع المناخ الجديد من الإحباط والانهزاميّة. لا شكّ أنّ مدرسة «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (التي قادها ثقافيّاً -من اليسار- صادق جلال العظم والعفيف الأخضر وأدونيس و-من اليمين- أمثال سيسيل حوراني وسعد جمعة). مجلّة «دراسات عربيّة» (القريبة من البعث العراقي) استضافت أصوات «النقد الذاتي»، بالإضافة إلى مجلّة أدونيس، «مواقف»، بعد 1969. وجريدة «النهار» و«الحياة» استضافتا أصوات الانهزاميّة اليمينيّة. سيسيل حوراني (وكان مستشاراً للحبيب بورقيبة -الساداتي قبل السادات-). وحوراني عمل في ما بعد مستشاراً وثيقاً لبشير الجميّل ولسعد حدّاد، وكان يكتب مراسلات بشير الجميّل مع إدارة ريغان (كان شارل مالك هو الذي زكّاه عند بشير الجميّل، وكان يعرفه من الجامعة الأميركيّة حيث درّسَ العلوم السياسيّة في الخمسينيّات).

أدرك عرفات أنّ جوّ الانهزاميّة سيقضي على حركة المقاومة بعد سنتَين فقط من انطلاقتها الهمروجيّة. التحدّي أمام عرفات كان: هل يقضي العمل العسكري المنظّم والفعّال على الانهزاميّة، أم العمل الاستعراضي والبيانات الخطابيّة الشعريّة هي الكفيلة بالتعامل مع الانهزاميّة؟ هنا جنح عرفات باستمرار نحو الانتصاريّة، لكنّه كان يعكس شخصيّتَين: واحدة علنيّة شديدة الإصرار على حتميّة النصر، وأخرى في المجالس، حيث كان يعبّر عن يأسه وحنقه من الحلفاء وغضبته من الحالة التي وصلت إليها المقاومة الفلسطينيّة.

وصف صائب سلام بالتفصيل شخصيّة عرفات في صيف 1982 حيث يظهر بوضوح انفصام بين ظهوره العلني الذي كان ملؤه التحدّي والانتصاريّة (وكان ذلك مفيداً لجمهور المقاومة في لحظات اليأس والعجز والهزيمة) وبين شخصيّته في المجالس والاجتماعات المغلقة عندما كفرَ بكلّ شيء. كان يستلذّ بالسخرية من «أصحاب» نايف حواتمة من الـ«كي.جي.بي» في بيروت، ويشير له ضاحكاً في الاجتماعات: ماذا يقول أصحابك عن الوضع؟ وفي الجلسات في منزل صائب سلام، كان يرغي ويزبد ويهدّد بقصف جونية وبالتصعيد الذي لم يكن يملك وسائله. وإذا كانت انتصاريّة عرفات مفيدة للجمهور في ذلك الحين فإنّها تكسّرت بمجرّد أن قبِلَ بخطّة ترحيل قسري، على بواخر، لكلّ قوات المقاومة في لبنان. هنا زاد الإحباط والانهزام، وعن حقّ.

عرفات نفسه كان يُعلِن قبل الاجتياح في 1982 ترحيبه بالقوات الإسرائيليّة الغازية. كان يسخر من شارون ويقول: أهلاً بشارون. كما كان يزهو بعِلمه بخُطط العدوّ: لم يتوقّف عن التبجّح بمعلومات عن خطّة «الأكورديون» التي سيلجأ إليها العدوّ لحصار قوات المقاومة في الجنوب، من الجنوب والشمال. لكنّ الرجل الذي أعلن ترحيبه بقدوم الاجتياح لم يكن لديه خطّة مواجهة أو خطّة دفاع أو حتى خطّة انسحاب منظّم. وضع على رأس «القوات المشتركة» الحاج إسماعيل الذي استحق محاكمة ميدانيّة لأنّه كان أوّل المنسحبين بعد أوّل طلقة (وقصّة «القوات المشتركة» كانت أيضاً من صُنْع خيال عرفات. لم يكن هناك ما هو مشترك بين قوّاتها، ولم يكن عرفات يستشير أحداً مِن حوله، من حلفائه الفلسطينيّين أو اللّبنانيّين.

وفي مرحلة ما بعد خروج الجيش السوري من لبنان، تمّ صنع سرديّة عن حلف ذهبي بين عرفات وكمال جنبلاط فيما كانت العلاقة شديدة السوء بين الرجلَين. كان جنبلاط، وعن حقّ، يضيق ذرعاً بوعود ياسر عرفات وأكاذيبه. كان كلوفيس مقصود يقصّ علينا تفاصيل تلك الاجتماعات حين كان جنبلاط يحرج عرفات بالنسبة إلى وقْف دعْم الحركة الوطنيّة، وذكر لنا مرّة عندما احتجز عرفات باخرة سلاح كانت في طريقها إلى الحركة الوطنيّة في مرفأ صيدا. صادر عرفات محتوياتها وطالبه جنبلاط من دون جدوى بإرجاعها. كان عرفات يمثّل دور المُتجاوِب، ثم يكذب مرّة أخرى. حاول عرفات اليائس تصوير الهزيمة الشنيعة كنصر، وكان ذلك أسوأ نموذج للانتصاريّة الفارغة.

عصام السرطاوي ردّ على زعْم عرفات بالانتصار بالقول إنّ المقاومة ستنتهي في جزر فيجي على هذا المنوال (اغتال أبو نضال السرطاوي بعد أشهر من ذلك التصريح).
حزب الله تجربة مختلفة بالكامل. هي نبتت بصورة معاكسة لحركة «فتح» ولتجربة عرفات القيادية. نصرالله كان عقلانيّاً في التخطيط واحتساب الربح والخسارة في صنع القرار، على نقيض عرفات الذي فضّل دوماً الارتجاليّة وسبْر غور المزاج – مزاجه هو. إذا كانت حركة «فتح» قد وُلدت ببيانات استعراضيّة انتصاريّة، فإنّ الحزب وُلد من دون إعلان أو تصريح، وحتماً من دون استعراض على الإطلاق. الحزب وُلد بسرّية تامّة في حالة لا تشبه أيّاً من حالات التنظيمات الفلسطينيّة الأخرى. لم يعلم أحد خارج نطاق دائرة الأعضاء الصغيرة عن ولادة الحزب عندما أُطلق رسميّاً في العلن في عام 1985.

قبل ذلك لم يعلم الناس إلّا عن أيادٍ سرّية كانت تُمعن في مقاتلة الأميركيّين والإسرائيليّين والفرنسيّين في لبنان. كيف يمكن معرفة وجود تنظيم لم يخرج إلى العلن بعد؟ كانت الناس تتساءل عن هويّة هؤلاء الذين يشنّون عمليات عسكريّة كبيرة ضدّ القوات المتعدّدة الجنسيّة وضدّ قوات الاحتلال الإسرائيلي. عمليّات الحزب (التي عرفنا في ما بعد أنّها للحزب) كانت أكبر وأقوى من عمليّات «جمّول» من دون الاستهانة ببطولة عمليّات «جمّول» وفعاليّتها. لكن باعتراف العدوّ، فإنّ عمليّات الحزب كانت مختلفة نوعيّاً وشكّلت كابوساً عند الإسرائيليّين. كانت هناك بيئة معادية لفعل المقاومة في معظم لبنان، على خلاف البيئة التي استضافت ولادة المقاومة الفلسطينيّة.

لكنّ حركة المقاومة الفلسطينيّة أساءت التعامل مع البيئة الحاضنة لها، مرّتَين، لا مرّة واحدة: الأولى في الأردن والثانية في لبنان. وهي بذلك خسرت الماء الذي تحتاجه السمكة على قول ماو تسي تونغ (ذكر رشيد الخالدي ذلك المثال في كتابه «تحت الحصار»عن صنْع القرار في منظّمة التحرير خلال حصار بيروت). الحزب أسّس لتجربة فريدة في السرّية المُطلَقة في سنواته الأولى. لم تعلم الناس عن أسماء أعضاء، ولا حتى أسماء قياديّين، ولا حتى عن اسم التنظيم. كان هناك بيانات بإعلان مسؤوليّة بأسماء اندثرت (أين هي منظّمة «الجهاد الإسلامي» -غير المنظّمة الفلسطينيّة- وأين «المستضعفين في الأرض»؟ تلك السريّة حَمَت التنظيم وشدّت عودَه في سنوات التأسيس والانطلاق).
ملاحظة: وردني تصحيح آخر أنّه ليس هناك نساء في القيادات السياسيّة العليا لحزب الله باستثناء امرأة واحدة.

* كاتب عربي

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة