آخر الأخبار

قتل الصحفيين والأطباء.. نمط إجرامي متكرر لتفريغ المشهد الإعلامي والإنساني

0123-465465654

في جريمة مركبة جديدة، استهدفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي صباح اليوم الإثنين (25 آب/أغسطس 2025) مجمّع ناصر الطبي في خان يونس جنوب قطاع غزة، ما أسفر عن استشهاد خمسة صحفيين وعدد من عناصر الدفاع المدني ومسعفين وأطباء، إلى جانب عشرات الجرحى.

الهجوم أثار موجة غضب واسعة في الأوساط الصحفية والحقوقية، كونه يكرّس نمطاً متكرراً من استهداف متعمّد للصحفيين والطواقم الطبية والإنقاذية منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وتُظهر إحصاءات منظمات دولية أن حرب غزة تحوّلت إلى الأكثر دموية ضد الصحفيين في التاريخ المعاصر. فبحسب لجنة حماية الصحفيين، قُتل ما لا يقل عن 244 صحفياً وعاملاً إعلامياً حتى أغسطس/آب الجاري، بعد موجة اغتيالات مباشرة طاولت مراسلين ومصوّرين في مواقع متفرقة من القطاع.

في المقابل، قُتل المئات من الطواقم الطبية والدفاع المدني خلال عمليات إنقاذ أو أثناء وجودهم في المستشفيات وسيارات الإسعاف، وهو ما وثقته الأمم المتحدة باعتباره الهجوم الأعنف على العاملين الإنسانيين حول العالم خلال العامين الأخيرين.

السيطرة على السردية

تحقيقات صحفية إسرائيلية مستقلة كشفت مؤخراً عن خلية في الاستخبارات العسكرية تُسمى “وحدة الشرعنة”، تتولى إنتاج ملفات دعائية لاتهام الصحفيين في غزة بالارتباط بحركة حماس، بغرض تبرير استهدافهم أو نزع الشرعية عن رواياتهم. هذه التسريبات عززت قناعة منظمات حقوقية بأن عمليات القتل ليست “أضراراً جانبية” وإنما سياسة ميدانية تستند إلى قرارات منهجية.

وفي هذا السياق، يُنظر إلى استهداف الصحفيين والطواقم الطبية كجزء من معركة السيطرة على السردية وإخضاع المجال الإنساني في القطاع. فمن خلال تغييب الأصوات التي توثّق الانتهاكات، وإضعاف فرق الإنقاذ التي تسعف المدنيين، يسعى جيش الاحتلال إلى توفير “غطاء عملياتي” لاجتياح مدينة غزة دون مواجهة ضغط إعلامي دولي أو صور حية تُظهر حجم الدمار والضحايا.

ووفق مراكز بحثية إسرائيلية قريبة من المؤسسة العسكرية، فإن ضرب منظومات البث والتغطية الميدانية في غزة، بالتوازي مع استهداف متدرج لمراكز الصحة والإنقاذ التي تُشكّل خطوط الحياة الأخيرة للسكان، يعد أحد أركان الحرب الدعائية الإسرائيلية “الهاسبارا”، حيث يصبح الاحتلال العسكري مترافقاً مع “احتلال الرواية”، على حد وصف أحد المحللين.

في حين يمثل “الردع الإعلامي” نهجًا مركّبًا يجمع بين أدوات القوة الخشنة (ضرب البنى الإعلامية/الإنسانية ميدانيًا) والقوة الناعمة (عمليات تأثير، تضليل، نزع شرعية الصحفيين)، بهدف تحييد الشهود وتقليل كلفة الاحتلال سياسيًا دوليًا، وفق تقرير للنسخة الإنجليزية لموقع “تايمز أوف إسرائيل”، مبينا أن هذا النهج لا يظهر كـ”وثيقة عقيدة” واحدة، بل كمحصلة تراكُم أدوار مؤسساتية تشمل: الناطق باسم الجيش، ومديرية الدبلوماسية العامة في ديوان رئيس حكومة الاحتلال، والاستخبارات العسكرية، والرقابة العسكرية، ووزارات الاتصال والخارجية، إضافة إلى شبكة مدنية-رقمية موالية من منظمات ومنصّات ومؤثّرين.

ووفق تحقيقات وتقارير نشرتها الغارديان، والتايمز، ومجلة +972، تعمل منهجية الردع الإعلامي على تهيئة سردية مسبقة بإنتاج حزم ادعاء حول استخدام المستشفيات/الإسعاف/المكاتب الصحفية لأغراض عسكرية”، مع تجهيز “ملفات شرعنة” استخبارية دعائية تتهم الأشخاص المستهدفين “بالإرهاب” لتبرير الاستهداف أو نزع شرعية عن الضحايا.

ولاحقاً يعمل المتحدثين العسكريين باسم الجيش على حملة تواصل رقمية ودبلوماسية ببث مواد منتقاة، وجولات مُوجهة، وفيديوهات عملياتية على تيك توك/إنستغرام/ إكس لصناعة إطار تأويلي واحد للحدث، يتقاطع مع نمط الاستهداف المتكرر، ويقلل من وقع الصور والمشاهد على الرأي العام الدولي.

تقليص القدرة على التوثيق

ويقول المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن جيش الاحتلال يريد تمهيد بيئةٍ ميدانية تقبل احتلالاً طويل الأمد أو عمليات برية مكثفة داخل مدينة غزة من دون ضغط بصري دولي قوي، عبر تقليص قدرة التوثيق الفوري.

وفي بيان للمرصد بتاريخ 11 أغسطس الجاري، شدد على أن اغتيال مراسلا الجزيرةـ، أنس الشريف ومحمد قريقع والمصورون إبراهيم ظاهر، مؤمن عليوة، ومحمد نوفل، يعكس مستوى خطيرًا من الاستهتار بالقوانين الدولية، ويمثل تعبيرًا صارخًا عن نتائج الإفلات من العقاب الناتجة عن سياسة الدعم والصمت التي يمارسها المجتمع الدولي، الذي يمرر مثل هذه الجرائم.

وحذر الأورومتوسطي من تصاعد جرائم استهداف الصحافيين المتبقين في قطاع غزة، خاصة مع استمرار منع طواقم الصحافة الأجنبية من الدخول منذ بدء حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وهو ما عدّه مؤشر على السعي الإسرائيلي لفرض تعتيم إعلامي كامل على ما يحدث داخل القطاع، مع الحديث عن بدء عملية عسكرية واسعة النطاق في مناطق مختلفة، لا سيما في مدينة غزة.

خرق صارخ للقانون الدولي

ويعد استهدف الطواقم الميدانية الإنسانية من الصحفيين والعاملين في الإغاثة وقت الحروب خرقاً فاضحاً للقانون الدولي الإنساني، بوصفهم مدنيين. وتنص المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف على أن الصحفيين في مناطق النزاع يتمتعون بالحماية الكاملة ما لم يشاركوا مباشرة في القتال. كما تؤكد القواعد ذاتها أن المستشفيات وفرق الإسعاف والدفاع المدني “يجب احترامها وحمايتها في جميع الأحوال”، وأن استهدافها المتعمد يُعد جريمة حرب.

وشددت قرارات مجلس الأمن (2222 لسنة 2015، و2286 لسنة 2016) على حماية الصحفيين والكوادر الطبية، وطالبت بإنهاء الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضدهم.

ووفق أيرين خان مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحرية الرأي والتعبير، فإن ضربة مستشفى ناصر “جريمة مركبة”، لكونها جمعت بين استهداف منشأة طبية محمية بموجب القانون الدولي، وقتل فئات مدنية محمية هي الصحفيون والمسعفون.

وتشير إلى أن تكرار النمط الموثّق منذ بدء الحرب بما يشير إلى ممارسة ممنهجة لا إلى خطأ عسكري عرضي، إلى جانب ارتباط مباشر بخطط السيطرة العسكرية على مدينة غزة وتصفية كل قدرة مدنية على فضح الانتهاكات أو التخفيف من آثارها.

ومع تزايد الأدلة والشهادات، تتجه الأنظار مجدداً إلى المحكمة الجنائية الدولية، حيث تراكمت شكاوى من “مراسلون بلا حدود” ومنظمات حقوقية أخرى تتهم جيش الاحتلال بارتكاب جرائم حرب ممنهجة ضد الصحفيين والطواقم الإنسانية في غزة. غير أن غياب الضغط الدولي الفاعل حتى الآن أبقى باب الإفلات من العقاب مفتوحاً، ما يجعل مستشفى ناصر اليوم محطة دامية جديدة في سلسلة استهدافات لا تتوقف، ومؤشراً إضافياً على أن السيطرة العسكرية على غزة لن تقتصر على الأرض فقط، بل تمتد إلى تفريغ المجال الإعلامي والإنساني من أي قدرة على المقاومة أو الشهادة.

 

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة