آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [17]

212-r8uptr3caelyt8yion9keysxyto4yu9q3my084i8hc

أسعد أبو خليل

حرب الإسناد

مناقشة خيارات الحزب وممارساته العسكريّة والسياسيّة بعد «طوفان الأقصى» لن تنتهي. هذه ستكون مصدرَ أبحاث وأطروحات لسنوات طويلة. نحن لا ندري اليوم الأثرَ الكبير الذي سيتركه «الطوفان»، على المديَين المتوسط والطويل، على مجرى القضيّة الفلسطينيّة في العالم. الحزب وجد نفسه في ورطة كبيرة بمجرّد أن وصلت أخبار «الطوفان» إلى قيادته. لا يكفي القول إنّ الحزب علمَ أنّ شيئاً ما سيُعدّ من قبل «حماس» في غزّة أو إنّ «حماس» أبلغتهم من قبل أن يتحضّروا لحدث لا يدري به المبصّرون.

هذا كلّ ما عرفه الحزب عن «الطوفان» قبل حدوثه. وجورج دبليو بوش (من دون مقارنة، طبعاً) علمَ بإمكانيّة حدوث 11 أيلول عندما وصلته معلومات استخباراتيّة مؤكّدة قبل أسابيع فقط من الحدث نفسه. هذه تُسمّى (بلغات أخرى أجنبيّة) معلومات غير قابلة للترجمة إلى أعمال، أو معلومات استخباراتيّة تصلح (أو لا تصلح) للعمل المُحدّد.

لم يكن بحوزة الحزب أيّ معلومات مفيدة له في التخطيط للردّ على الردّ الإسرائيلي على «الطوفان». لم يطلب السنوار مساندة أو تنسيقاً أو شكراً من الحزب ومن باقي الحلفاء. ترك لحلفائه أن يرَوا ما يفعلونه كلٌّ على طريقته، وهذا عبء كبير وضارّ للمحوَر برمّته. لم يدرس السنوار البيئة السياسيّة المحيطة (الإقليميّة أو العالميّة) التي شنّ فيها «الطوفان»، أو هو درس البيئة ولم يجد فيها ما يستدعي التعطيل أو التأخير.

يمكن لأيّ قائد في حماس في غزّة أن يستلهم من حرب تمّوز أنّ العدوّ تغيّر في عقيدته العسكريّة وأنّه مستعدّ أن يضحّي بسجنائه، وبالناس حول سجنائه، ولو أدّى ذلك إلى مجازر متعدّدة ومتنقّلة. بعد خطف الجنود في تموّز 2006، قصف جيش العدوّ أماكن عدّة ظنّاً منه أنّها تحوي جنوده. عقائد عسكريّة ووحشيّة يضعها في خدمة الهدف الأكبر: كيفيّة إخضاع العرب وفرْض الإحباط والعجز على نفسيّاتهم. إعلام الخليج كان مسانداً لذلك منذ ما قبل 1967.

الحزب كان شبه محاصر (بخاصّة داخليّاً) عشيّة «الطوفان» (كما أسلفتُ بالتفصيل من قبل). الوضع السياسي الداخلي لم يكن مؤاتياً له البتّة. الحلفاء تناثروا مِن حوله وهجروه، إمّا اعتراضاً على ممارساته وسياسته نحوهم أو طمعاً بمال خليجي معادٍ. والحزب فاقم من أزمته بخياراته: الدفاع المستميت عن النظام الفاسد بكلّ طاقمه، والمشاركة في قمْع الحركة الاحتجاجيّة التي انطلقت عفويّاً في 2019 بعد الانهيار المالي، قبل أن يستولي العدوّ أو الأعداء عليها بهدف تحويرها ضدّ الحزب: استهداف «الحزب أوّلاً» بات الشعار الحقيقي الفعلي لـ«الحراك» (أو هو ثورة). ما كان يمكن للحزب أن يفعله إزاء كلّ ذلك؟

خيار التجاهل. كان يمكن لنصرالله أن يتجاهل الحرب برمّتها. كان يمكن له الاستعانة باستفراد قرار السنوار كي يرفض توريط الحزب، ولبنان معه. هل كان سيحصل على تأييد الخصوم في لبنان والمنطقة؟ حتماً لا. هؤلاء نعرفهم ونعرف أجندتهم الخليجيّة ــ الإسرائيليّة. نعرفهم من خلال أطوار مختلفة في سِيَرهم.

عندما لم يكن لبنان يصل إلى اتّفاق حول الحدود البحريّة مع إسرائيل، ثارت ثائرة هؤلاء (في الإعلام الخليجي) واتّهموا الحزب بأنّه يعطّل اتّفاقاً ضروريّاً يؤمّن الثروة والفائدة للبنان فقط لأنّه مرتبط بالأجندة الإيرانيّة التي تمنع -بحسب تحليلهم التبسيطي المعتاد- أيّ اتّفاق بين لبنان وإسرائيل لأنّ ذلك يضرّ بالملف النووي. تستطيع أن تربط الملف النووي بأيّ حدث أو تطوّر في لبنان. فارس سعيد يعتاش على الدّعم الخليجي للازمته هذه: أنّ الحزب يفعل كذا وكذا أو لا يفعل كذا وكذا لأنّ الملف النووي الإيراني يمنع ذلك أو يُشجّع على ذلك.

على العكس، لو أنّ الحزب تجاهل تطوّرات «الطوفان» بحجّة أنّه أُخذ على حين غرّة فإنّ جوقة الخليج ــ إسرائيل الصادحة في لبنان (وعلى شاشة محمد بن سلمان، «الحدث») كانت ستهجو الحزب وتتّهمه ببَيع فلسطين للحفاظ على مصلحة إيران في… المفاوضات النوويّة مع أميركا. كانت ستسارع إلى تعبئة الجمهور العربي ضدّ الموقف الشيعي للقول: إنّه متى حان وقت مناصرة فلسطين، فإنّ الحزب نام وغاب عن الساحة لأنّ أجندته لا تتضمّن فلسطين. إيران، بحسب ما ورد في غير وسيلة إعلاميّة ومن أحاديث خاصّة، نصحَت الحزب بالتروّي والاكتفاء بالمناصرة اللّفظيّة على طريقتها. لم تكن إيران أبداً في وارد الدخول في حرب إقليميّة مُدمِّرة، وبخاصّة أنّها قرأت سياسات ترامب ربّما أفضل ممّا قرأها السنوار.

تجاهُل «الطوفان» لم يكن ممكناً لحسن نصرالله. فلسطين كانت في صلب العقيدة عند تلاميذ الخميني. «يوم القدس» بات طقساً شبه ديني مرتبط بشهر الصيام المبارك. لو أنّ نصرالله ترك فلسطين وحيدة في معاناتها في غزّة، كان سيخذل نفسه ومبادئه أوّلاً، وهذا مستحيل

ولو أنّ الحزب تجاهل «الطوفان» وأصدر بيانات التأييد من بُعد، لم يكن لينال أيّ إشادة من الخصوم في الداخل. هم حتى بعد أن أشعل ردّاً محدوداً جدّاً في ضرْب مزارع شبعا وقصف بنى استخباراتية قريبة من الحدود، تعرّض للسخرية في الإعلام المعادي الذي اتّهمه باللِّين والخنوع نحو إسرائيل. حديث اتّفاق «تحت الطاولة» رافق المرحلة الأولى من ردّ الحزب على «الطوفان». وكان هؤلاء الأعداء قد جزموا لنا بعد اتّفاق الحدود البحريّة أنّ الحزب التزم منذ تلك اللّحظة حتى يوم الدين بعدم التعرّض لإسرائيل بأذى وأنّ إيران ستضمن غربته عن ساحة الصراع مع إسرائيل. هؤلاء جزموا أنّ الحزب وقّع اتفاقية سلام واستسلام أين منها اتّفاقيّة 17 أيّار.

في العالم العربي، كان الرأي العام مُعَدّاً سلفاً لترداد مقولة إنّ إيران تستغلّ القضيّة لمصلحتها (كيف لمصلحتها؟ هنا لا يفيدك أيٌّ من هؤلاء بجواب مقنع، وبخاصة أنّ مساندة إيران للقضيّة لم تجلب لها إلّا الويلات والعقوبات والحروب من الغرب والخليجيّين). الرأي العام العربي كان سيقول إنّ الشيعة لا يكترثون للقضيّة وإنّ السُّنّة وحدهم (أين؟) هم حاملو القضيّة ولواء الدفاع عنها.

لكن في لبنان كان يمكن للحزب أن يلتقط بعضاً من أنفاسه لو أنّه تجاهل «الطوفان». كان يمكن له أن يتفرّغ إلى المشاغل الداخليّة مع أنّه غرق عميقاً جدّاً في شؤون السياسة الداخليّة وشجونها وتفاصيلها وفرض حظراً على الانتخابات الرئاسيّة لأنّه أصرّ على مرشّح ماروني وحيد. لم يقبل حتى بمبدأ التفاوض مع حليفه السابق، التيار الوطني الحرّ، للتوافق على خيار آخر مقبول (ما ضير لو أنّه اتّفق على مروان شربل أو فارس بويز أو غيرهما ممّن أثبت ثبات قناعته ووفائه ومن دون مقابل؟). لا، الحزب منع مع حليفه – برّي – أيّ عقد لجلسة الانتخابات الرئاسيّة لفرْض سليمان فرنجيّة مرشّحاً وحيداً.

هذه لن تُسجّل في تاريخ الحزب من فضائله أو من شطارته. هو انتهى مؤيّداً لمرشّح خصومه الإقليميّين، في الخليج وأميركا. فُرض عليه جوزيف عون لأنّ المعركة العسكريّة أفقدته النفوذ الذي كان يمنحه إمكانيّة المناورة أو المقايضة. وجد نفسه ضعيفاً جدّاً سياسيّاً وأمِلَ (خطأً) أنّ عون سيكافئه على موقفه المؤيّد، أو غير المعارض.

تجاهُل «الطوفان» لم يكن ممكناً لحسن نصرالله. فلسطين كانت في صلب العقيدة عند تلاميذ الخميني. «يوم القدس» بات طقساً شبه ديني مرتبط بشهر الصيام المبارك. لو أنّ نصرالله ترك فلسطين وحيدة في معاناتها في غزّة، كان سيخذل نفسه ومبادئه أوّلاً، وهذا مستحيل. نصرالله عَلّمَ الوفاء لقضيّة فلسطين لغير جيل، وكان يعطي محاضرات عامّة شبه أكاديميّة عن خطر الصهيونية الكبير، على لبنان وعلى العالمَين العربيّ والإسلامي. فلسطين عند نصرالله وعباس الموسوي هي أساس في العقيدة ولا يمكن التفريط بها.

هؤلاء يعملون في السياسة ويقايضون في المحاصصة والتعيينات مثلهم مثل غيرهم في النظام اللّبناني الطائفي الفاسد، لكنّ فلسطين ليست معروضة في سوق التفاوض عندهم. هؤلاء آخر من يمكن أن يقبل بوجود إسرائيل، ولا يمكن أن يقبلوها. قتل العدوّ نصرالله ورفاقه لأنّهم وقفوا مع فلسطين. هؤلاء دفعوا دمهم من أجل فلسطين، ومن دون أن يحصلوا بعد ذلك على تقدير أو امتنان من الشعب الفلسطيني في لبنان. مظاهرة واحدة لم تنطلق من أيّ مخيم فلسطيني وفاءً لنصرالله، وحضور المخيمات في تشييعه كان هزيلاً جدّاً بحسب ما علمتُ من حاضرين وحاضرات.

نصرالله جعل من موضوع فلسطين محوَر سياساته ومُنطلقها. حتى التدخّل في سوريا كان من منظور مواجهة حركات تدخل ضمن المشروع الصهيوني (هنا، أكّدت تطوّرات الوضع السوري أنّ نصرالله كان محقّاً في تحذيراته رغم ما صاحبَ التدخّل من شعارات طائفيّة ودينيّة لم ترتبط بفلسطين وحدها). مرحلة نصرالله في قيادة الحزب هي مرحلة فلسطين قبل كلّ شيء. خياراته كانت محدودة لو قرَّر التجاهل وإن كان ذلك حفاظاً على الرأس بالنسبة إلى التنظيم. وكانت إسرائيل قد كشفت عن وجهٍ أكثر وحشيّة وفظاعة من قبل، وهي الدولة التي تأسّست على الوحشيّة وعلى جرائم بحق العرب والإبادة والتطهير العرقي.

هل أنّ التجاهل كان سينقذ التنظيم؟ هنا ندخل في تقييم وضع التنظيم بناء على ما حصل لاحقاً لنقول: العدوّ كان مستعدّاً للانقضاض على الحزب في أوّل لحظة، ونتنياهو أراد شنّ الحرب على لبنان فوراً، لكنّ الإدارة الأميركيّة طلبت التريّث. ولو أنّ وسائل الاتّصال فُجِّرَت بالتزامن مع حرب مُباغتة، فإنّ ذلك كان سيضع التنظيم في موضع شديد الحراجة والضعف، أكثر من الوضع الذي وجد الحزب نفسه فيه عندما توسّعت الحرب بقرار إسرائيلي.

ولا يمكن تحليل خيار التجاهل من دون الربط بما جرى بعد «الطوفان». إنّ إشعال حرب الإبادة والمجاعة الإسرائيليّة كانت فظيعة إلى درجة يصعب على الحزب، وعلى نصرالله مباشرة، تجاهلها. لكن هل من المنصف أنّ الحزب وحده من بين كلّ حلفاء حماس هو الذي تكلّف أكبر عبء في المشاركة ومن دون انتظار عون أو تنسيق من باقي الحلفاء؟ أين كان «الحشد الشعبي» العراقي؟

والذي أضعف ردّ الحزب كان المسار الجديد للنظام البعثي السوري الذي استمرّ في تقاربه مع النظام الإماراتي (لا يكفي القول إنّ بشار الأسد لم يُوقِّع، لأنّه كان متحالفاً في آخر مرحلة من مراحله مع أقرب نظام عربيّ إلى إسرائيل، وهو بدأ بالتضييق على حركات الحزب وإيران في سوريا بالتنسيق مع النظام الإماراتي). وكان لإيران حساباتها التي أبعدَتها عن الردّ على العدوان الإسرائيلي والحزب وفيّ جدّاً لحلفائه، وكلمة نصرالله كان لها احترامها لأنّه (خلافاً لقادة الأحزاب والتنظيمات في لبنان) يفي بوعوده.

(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة