آخر الأخبار

النكبة لم تتكرّر… الفلسطيني تغيّر

1

قاسم س. قاسم

في نيسان من عام 1948، شنّت عصابتان يهوديتان، هما «ليحي» و«إرغون»، المدعومتان من «الهاغاناه» و«الپلماخ»، هجومًا على قرية ارتبط اسمها بمذبحة كبرى، هي دير ياسين الواقعة غرب مدينة القدس. كلّنا نعلم ماذا جرى في تلك القرية، حيث استشهد نحو مئة رجل وامرأة على أيدي العصابات الصهيونية، التي لم تكتفِ بالقتل، بل دمّرت بيوت القرية وسوّتها بالأرض، وذلك ضمن «خطة داليت» التي نصّت على تطهير القرى الفلسطينية من سكانها وتدميرها، بهدف تأمين محيط المستوطنات اليهودية.

وبعدما وصلت أخبار المذبحة إلى مسامع الفلسطينيين في يافا وحيفا وطبريا واللدّ والرملة، وأسهم المتعاونون مع الصهاينة في نشرها في القرى العربية الملاصقة للمزارع الاستيطانية اليهودية، بدأ يتزايد هروب الفلسطينيين من قراهم، رغم عدم وجود تهديد جدي، مدفوعين بالخوف الذي فَعل فِعله فيهم؛ وهو ما علّق عليه زعيم الحركة الصهيونية حينذاك، دافيد بن غوريون، بالقول إن «الهجوم على دير ياسين سرّع هروب العرب من حيفا».

هكذا، استثمر المشروع الصهيوني، في عام 1948، سلاح الخوف لدفع الفلسطينيين إلى الخروج وترك أراضيهم، وهو ما نجح فيه إلى حدٍّ كبير للأسف. في كتاب الباحث الإسرائيلي بني موريس، «1948»، يَظهر أن العمليات العسكرية الصهيونية اقترنت بمنظومة حرب نفسية متكاملة: قصف مستمر بمدافع الهاون على الأحياء السكنية الفلسطينية لإحداث الذعر، تضخيم أخبار المجازر للتسبّب في حالة من الخوف بين الفلسطينيين، استخدام مكبّرات الصوت وتوزيع المنشورات باللغة العربية لزرع شعور بعدم جدوى قتال العصابات الصهيونية (أنتم محاصرون… القرار لكم، عليكم الرحيل)، وتضخيم «انتصارات» تلك العصابات ضدّ جيش التحرير العربي من أجل تيئيس الفلسطينيين.

والنتيجة حينذاك كانت النجاح؛ إذ فرّ أهل بلدات كثيرة قبل وصول الاشتباكات إليها بفعل «عدوى الذعر»، أو هادن بعض سكانها عصابات «الهاغاناه» كي لا ترتكب المجازر بحقهم، ووصلت حالة الرعب إلى درجة أن بعض القرى منعت وجود مقاومين فيها، وذلك مثلما جرى في القرى المحيطة بطبريا.

أحفاد من قُتلوا على يد العصابات الصهيونية في دير ياسين وحيفا ويافا لن يكرّروا أخطاء أجدادهم

السيناريو نفسه تكرّر في حيفا في نيسان/ أبريل من عام 1948؛ فبعد مجزرة دير ياسين، بثّت «الهاغاناه» رسائل بالعربية تُحذّر من هجوم وشيك، ودعت المدنيين إلى إجلاء النساء والأطفال، ما سرّع تفكّك الجبهة الداخلية وانهيار المعنويات، وأنتج حركة خروج كبيرة نحو الميناء. كما أسهم بثّ المستعربين (وكانوا من اليهود العرب) إشاعاتٍ عن أن سلاح البحرية البريطانية في ميناء حيفا تكفّل بنقل الراغبين في ترك المدينة، في تسريع عملية تفريغها.

أما في اللدّ والرملة، فقد أصدرت العصابات الصهيونية إلى سكان المدينتين «أوامر إخلاء» تحت النار في تموز/ يوليو 1948. وأثناء «عملية داني» (استهدفت الرملة واللدّ)، رافق الاقتحامَ قصفٌ بقذائف الهاون وتحذيرات مسموعة ومكتوبة؛ وقد تضمّن أرشيف تلك الحقبة منشورات باللغة العربية وزّعتها عصابات «الهاغاناه»، مكتوباً عليها: «جميع الطرق بأيدينا» و«لا دعم قادم» (المقصود من العرب) و«الرحيل سبيل النجاة»، وهو ما استهدف «إحداث ذعر منظّم» لدفع سكان المدينتين إلى إفراغهما.

أعادت إسرائيل، في عدوانها الأخير على قطاع غزة، استخدام أدوات الحرب النفسية عينها التي استخدمتها في عام 1948: رمي منشورات جوية، عرض خرائط لـ«مناطق إخلاء»، إجراء مكالمات وبعث رسائل نصيّة تحرّض على الرحيل، إطلاق طائرات مسيّرة تحمل مكبّرات صوت، وإعلانات متكرّرة عن ضرورة الخروج عبر «ممرات إنسانية» نحو الجنوب أو الشرق. وهكذا، بدا أن التاريخ يكرّر نفسه؛ فالإسرائيلي منذ 1948 هو عينه، وأساليبه ومجازره هي ذاتها، ولكن هذه المرة ما تغيّر هو الفلسطيني. الفلسطيني الجديد الذي واجه آلة القتل الإسرائيلية في غزة، ورث ذاكرة 1948.

ولذا، فقد قرأ طلبات «الإخلاء» والمجازر بوصفها خطة إسرائيلية لتهجيره بشكل دائم وتكرار النكبة؛ علماً أن غالبية سكان القطاع أصولها من يافا وعسقلان المحتلتين. ورغم أن عدداً كبيراً من السكان انتقل من شمال القطاع إلى جنوبه أثناء الحرب، ولكن مع أول وقفٍ لإطلاق النار عاد هؤلاء إلى بيوتهم التي يعرفون أنها مهدّمة.

في عام 1948، كان للإشاعات والمجازر دور كبير في تهجير الفلسطينيين من أرضهم، ولكن هذه المرة، فإن حجم المجازر التي ارتكبها جيش العدو زاد أهل غزة عناداً وثباتاً. في 1948، حسمت إسرائيل حربها بنشر الخوف، فاندفع الناس إلى ترك كلّ شيء خلفهم والهروب. أما في غزة، فقد حاولت إسرائيل استدعاء القالب نفسه، ولكن مرة جديدة، الفلسطيني تغيّر؛ فالخروج عنى بالنسبة إليه نكبة جديدة، فيما المجازر لم تسبّب حالة من الرعب الجماعية، بل زادت صاحب الأرض تمسكاً بأرضه، وانعكست سلباً على الإسرائيلي لا على الفلسطيني.

بالنتيجة، فشلت إسرائيل في إحياء تجربة النكبة لتهجير الغزيين وإحلال المستوطنين مكانهم في شمال القطاع؛ فلم نشهد حركة نزوح خارج حدود غزة، لا بالترغيب (بحياة أفضل)، ولا بالترهيب (بارتكاب المجازر). ببساطة، أحفاد من قُتلوا على يد العصابات الصهيونية في دير ياسين وحيفا ويافا لن يكرّروا أخطاء أجدادهم، ولن يتركوا أرضهم مرة أخرى، ولو كلفهم ذلك حياتهم.

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة