حين تصمت المدافع، لا يعني ذلك أن الحرب انتهت؛ فالصمت نفسه يصبح امتداداً للضجيج الذي سبقه، والهواء الذي يملأ الرئتين بعد عامين من الدخان لا يُشبه الهواء الطبيعي، بل يحمل في ذراته رائحة البارود ورهبة النجاة. فالدخان العالق في السماء لا يزال يكتب أسماء الشهداء على الغيوم، والبحر الذي ابتلع صرخات الأطفال لم يهدأ بعد، موجه يئنّ كأن الموج نفسه صار مقبرةً مفتوحة.
كما كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش ذات مرة: “ستنتهي الحرب ويتصافح القادة، وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد، وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب، وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل. لا أعلم من باع الوطن، ولكنني رأيتُ من دفع الثمن”.
لكن هناك لحظات تشبه المعجزة: حين يتنفس الناس للمرة الأولى بلا خوف، حين يخرج الضوء من بين الركام كأنه يطلب الغفران من الأحياء الذين نجوا صدفةً من الإبادة.
اليوم، بعد سبعمائة وأربعة وثلاثين يوماً من النار والحصار والإبادة الجماعية في غزة، وُقّع السلام على أطراف الذاكرة لا على الورق، لأن السلام الحقيقي لا يُكتب بين الدول، بل بين الموت والحياة، بين الإنسان وحقه في أن يعيش دون قيدٍ أو تهديد.
اليوم وُقّع السلام على أطراف الذاكرة لا على الورق، لأن السلام الحقيقي لا يُكتب بين الدول، بل بين الموت والحياة
غزة، التي حوصرت حتى في أنفاسها، أدركت أن البقاء نفسه فعل مقاومة، وأن النهوض من تحت الأنقاض هو أبلغ ردٍّ على آلة الفناء التي أرادت تحويلها إلى فكرةٍ من الماضي. يقول الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو في هذا الصدد: “البقاء بعد الكارثة ليس صدفة، بل شكل من أشكال البطولة”.
في تلك المدينة التي صارت مرادفاً للعناد والصمود والمقاومة الإنسانية، يخرج الأطفال من بين الحجارة لا ليبكوا، بل ليعيدوا ترتيب العالم بطريقتهم الخاصة. يحملون حجارة أخرى يبنون بها بيتاً مؤقتاً، يرسمون بها خريطةً لوطنٍ لا يزال مؤجلاً، وطنٍ يراه الكبار حلماً ويراه الصغار يقيناً.
هناك، لا تُرفع الرايات احتفالاً بالنصر، لأن النصر لم يعد حدثاً عسكرياً، بل تجربةً وجودية — قدرة الإنسان على ألا يفقد وجهه الإنساني وسط المجزرة. وكأن أحدهم يهمس من بعيد: “حين يبتسم طفل في مدينة مدمّرة، فذلك إعلان غير مكتوب أن الغد ما زال ممكناً”.
المدينة التي احترقت ولم تمت، تفتح عينيها الآن على فجرٍ جديدٍ يولد من رحم الوجع: النساء يغسلن الغبار عن النوافذ المهدّمة كما لو أنهن يطهّرن ذاكرة المكان، والرجال يرفعون الأنقاض بأيديهم العارية بحثاً عن بقايا حياة، بينما السماء — التي لم تعرف الهدوء منذ عامين — تُجرب للمرة الأولى طعم الصمت. وحتى هذا الصمت ليس سلاماً كاملاً، بل نَفَسٌ خافت بين موجتين من الألم.
النصر لم يعد حدثاً عسكرياً، بل تجربةً وجودية — قدرة الإنسان على ألا يفقد وجهه الإنساني وسط المجزرة
قد لا يُعيد الاتفاق ما فُقد — فالأبناء الذين ناموا تحت الركام لا يعودون — لكنه يمنح المعنى لدماءٍ سالت كي يظل اسم فلسطين حياً. فما بقي بعد الحرب أكبر من الأنقاض: إرادة لا تُقهر، وذاكرة لا تموت، وشعب تعلّم من الموت كيف يخلق شكلاً جديداً للحياة.
كل حجر في غزة صار شاهداً على صبرٍ يتجاوز التاريخ، وكل وجهٍ هناك يحكي عن انتصارٍ لا يُقاس بالأسلحة، بل بقدرة القلب على الاحتمال. وهنا يطلّ الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، كأنه يكتب بدمه: “سأظل أناضل لاسترجاع الوطن لأنه حقي وماضيّ ومستقبلي الوحيد… لأن لي فيه شجرة وغيمة وظل وشمس تتوقد وغيوم تمطر الخصب… وجذور تستعصي على القلع”.
ربما انتهت الحرب، لكنها ستظل تُروى في لحن المآذن، وفي نواح الأمهات، وفي صمت الآباء الذين فقدوا كل شيء ولم يفقدوا الإيمان. سيبقى النسيم الذي يعبر البحر حاملاً أنين المفقودين، وستظل المدينة تتنفس ببطء، كأنها تُعلّم العالم كيف يُعاد بناء الإنسان بعد الكارثة.
فالسلام هنا ليس هدنةً بين قوتين، بل استراحة قصيرة بين جرحين، مرحلة يتعلم فيها البشر كيف يعيشون مع الذاكرة دون أن يغرقوا فيها. ومع ذلك، يبقى في القلب يقين غامض: أن هذه الأرض التي جرّبت كل أشكال الفناء تعرف وحدها كيف تولد من الرماد.
فغزة ليست مكاناً فحسب، بل تجربةٌ كونية إنسانية في إعادة تعريف معنى الوجود. إنها الدرس الأخير للعالم في أن الكرامة أغلى من الحياة، وأن المقاومة ليست فعلاً عسكرياً فحسب، بل خياراً فلسفياً للإنسان الذي يرفض أن يُمحى.
وكأن جان بول سارتر يذكّرنا قائلاً: “من أراد أن يرى وجه الإنسان الحقيقي، فلينظر في عيون من عاشوا الحرب ورفضوا الكراهية”.
في النهاية، حين تصمت المدافع، يبدأ اختبارٌ آخر — اختبار الذاكرة: كيف سنروي الحكاية؟ وكيف نحمي الحقيقة من النسيان؟ لأن أكثر ما تفعله الحروب، بعد القتل، هو محو الرواية والسردية.
وغزة تعرف أن معركتها القادمة ليست مع السلاح، بل مع النسيان نفسه. لذا، حين يعود الضوء من بين الركام، لا يمسح فقط وجوه الأحياء، بل يكتب سطراً جديداً في سفر الخلود:
أن الإنسان، مهما حوصر، يمكنه أن يصنع من الرماد أفقاً، ومن الوجع معنى، ومن البقاء نشيداً للحرية.