آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [22]

Hassan-nasrallah

أسعد أبو خليل

حرب الإسناد: السِّريّة والفرضيّات الخاطئة

لن ينتهي النقاش حول أسباب الكارثة التي أصابت الحزب في لبنان وعن الاختراق الفظيع الذي أصاب جسمه التنظيمي والعسكري. هناك تشديد مِن قِبل الحزب ومناصريه أنّ ما حدث هو نتيجة زيادة الفوارق في المستوى العسكري بين الحزب وإسرائيل، وأنّ المعدّات العسكريّة والاستخباراتيّة للعدوّ تقدّمت تكنولوجيّاً كثيراً عن حقْبة حرب تمّوز. لكنْ هذا لا يفسّر كثيراً، أو لا يفسّر كلّ شيء.

إنّ الفوارق في المستويات العسكريّة ليست جديدة أو غير متوقّعة: قدرات العدوّ العسكريّة تقدّمت من عام 1956 إلى 1967. والحكومة الأميركيّة التزمت منذ الثمانينيّات بدعْم إسرائيل وتمكينها من إلحاق الهزيمة، ليس فقط بدولة عربيّة معيّنة واحدة، بل بأيّ مجموعة من الدول العربيّة والإسلاميّة. وهذا الدعْم لا يكفي لتحقيق الهدف لأنّ إسرائيل احتاجت في الحرب الأخيرة أن تستعين بأميركا والدول الغربيّة والعربيّة كي تنتصر ليس على إيران فقط، بل على كلّ قوى المقاومة في المنطقة، بما فيها الحزب.

أميركا شاركت في الحرب على الحزب في لبنان بقوّة، في المجال الاستخباراتي والعسكري. لا، لو أنّ سبب ما جرى يكمن في القدرات العسكرية والتكنولوجيّة لإسرائيل وأنّها هي التي عمّقت في الهوّة بين القوّتَين، فإنّ ذلك كان يمكن أن يؤثّر في نتيجة حرب تمّوز حين هُزمت إسرائيل شرّ هزيمة. صحيح أنّ قدرات العدوّ تنامت لكنّ قدرات المقاومة تنامت هي أيضاً. السؤال: هل أنّ تنامي القدرات العسكريّة للحزب تجاوز وتيرة تقدّم القدرات الاستخباراتيّة له؟ أين قدرات الحزب السيبريّة التي كنا نسمع عنها الكثير؟ لماذا غابت كليّاً في هذه الحرب الأخيرة؟

ما جرى هو نجاح خطّة عسكريّة شلّت قدرات الحزب وعطّلت قدرته على الحركة. أي إنّ ما حدث كان يمكن تلافيه بتحضير أكبر وتدريب أكثر واحتراز أفضل. قدرات الحزب العسكريّة لم تستطع -بسبب الاختراق- الدخول في الخدمة بصورة شاملة. والتركيز الإسرائيلي على الوصول إلى القيادة واستهدافها مع المدنيّين كان يمكن تعطيله هو أيضاً.

ثم إنّ نظريّة تفسير عامل الزيادة الهائلة في القدرات العسكريّة الإسرائيليّة يمكن أن يكون مُقنِعاً أكثر لو أنّ ذلك انعكس بالدرجة نفسها على اليمن وغزّة، وهذا ما لم يحصل. ليست القدرات العسكريّة اليمنيّة أكثر تقدّماً من قدرات الحزب، أو قدرات «حماس» في غزّة. لكنّ السنوار طارد بنفسه عملاء إسرائيل ولم يتساهل معهم أبداً، كما إنّه كرّس جهازه الأمني لحماية القطاع من شرور إسرائيل واختراقاتها.

وكان واضحاً في الحرب أنّ مقاتلي حماس تمنّعوا عن الظهور على الإنترنت وأنّهم نبذوا الهواتف الخليويّة. ووفقاً لمصادر أمنيّة إسرائيليّة تحدّثت لقناة 15 الإسرائيليّة، فإنّ الجيش الإسرائيلي رمى من الجوّ في القطاع شرائح اتّصال لتجميع المعلومات عن الأسرى الإسرائيليّين. لكنّ الجناح العسكري للحركة أمر بتجميع الشرائح واستعمالها في الاتّصالات بين الأسرى وعائلاتهم لتضليل جيش العدو. وشبكة الاتّصالات السلكيّة في القطاع (والتي تعبُر في أنفاق) بقيت حتى اللّحظة الأخيرة عصيّة على الاختراق، بعكس الاختراق الفظيع الذي لحقَ بشبكة اتّصالات الحزب في لبنان.

السنوار كان يتواصل عبر وسائل تقليدية سرّية: شبكة من الأشخاص الذين يحملون الرسائل، ولغة كوديّة بالإضافة إلى رسائل خطيّة. واستعانت الحركة بشرائح إلكترونية متّصلة بالإنترنت لكنْ عبْر برامج إلكترونية عصيّة على التفكيك. هذه الاعترافات مِن قِبل إعلام العدوّ يشير إلى ثقافة إلكترونيّة متقدّمة جدّاً للحركة. أمّا اليمن، فهناك تلجأ الحكومة إلى وسائل اتّصال ما قبل الإلكترونية، وهذا ما حمى قادتها. إنّ استهداف إسرائيل للصحافيّين والوزراء في اليمن إنّما هو دليل عجز لأنّ العدوّ عجز عن الوصول إلى قادة «أنصار الله».

ليس هذا هو الحال مع الحزب. تعرّضت شبكة الاتّصال للاختراق (والإعلان عنها ومدّ سفارات الغرب بخريطتها، كما ورد في ويكيليكس عن لسان مروان حمادة، دشّن الاختراق)، ورغم ذلك بقي الحزب يستعمل تلك الشبكة، وهناك مَن سمح (في الجهاز الأمني للحزب) للأمين العام باستعمال تلك الشبكة حتى خلال أشهر الحرب الأخيرة. هذا جانب من جوانب الاسترخاء الفظيع الذي أصاب الحزب.

هل أنّ الحزب بقي مصمّماً على افتراض أنّ إسرائيل لن تجد ما يفيدها في التواصل عبر تلك الشبكة؟ هي تستطيع بأجهزتها الإلكترونية أن تتوصّل إلى الكثير من الخيوط التنظيمية عبر مراقبة الشبكة حتى لو كانت بعض الأحاديث مرمّزة، وليس هناك ما يشير إلى ذلك. وقبل الحديث عن الاختراقات الإلكترونية، هناك حاجة ماسّة إلى فهم طريقة العدوّ في الاختراق بهدف تحديد أماكن القادة لقتْلهم. هناك دلالات في اغتيال جهاد جبريل الذي تخصّص في الربْط بين حركات المقاومة في بلاد الشام وفي فلسطين المحتلّة، تفيد في الاحتراز الأمني المستقبلي. كان جهاد جبريل يتجنّب التواصل الهاتفي وكانت تحرّكاته محاطة بسريّة تامّة، مستفيداً من قدرات والده العسكريّة والأمنيّة.

وعندما اغتيل في عام 2002، وفَور شيوع خبر الاغتيال، ركّزت الجبهة على التحقيق الفوري. رسمت الجبهة دائرة صغيرة بأسماء الأشخاص الذين كانوا على عِلم بتحرّكاته الأخيرة (وكان يغيّر مكانه وسيّاراته) وأجرت تحقيقات مفصّلة معهم إلى أن أدركَت أنّ الاختراق لم يكن إلكترونيّاً بل بشريّاً. جنّد العدو شخصَين من الكوادر وكانا قريبَين من جهاد. وحسناً فعلَت الجبهة بأنّها لم تجد حرجاً في إعلان ذلك.

قد تُنتج المرحلة الراهنة -لو استمرّ الحزب في وجوده ككيان مقاوِم ضد إسرائيل- تنظيماً أصلب مِن قبل وأطرى عوداً، لكن أصغر حجماً، وهذه ليست نقيصة. مِن مصلحة حركة المقاومة أن تنبذ من صفوفها المتطفّلين والمنتفِعين والوصوليّين والانتهازيّين

فالحزب، ربّما نتيجة الحملة الإعلاميّة التي تريد أن تحيّد الأنظار عن الاختراقات الإسرائيليّة الحقيقيّة في أماكنه، يجد حرجاً في الاعتراف بالاختراق البشري في صفوفه، مع أنّ ذلك يمكن أن يحصّنه في المستقبل أكثر. هناك إمكانيّة للشطط في طريقة التحقيقات في داخل أيّ منظمة: لا يكون صحيّاً لو أنّ التنظيم، بهدف ملاحقة العملاء، نشرَ حالة من الريبة والشكّ والتشكيك في الصفوف، وأصبح كلّ عنصر ينظر إلى رفيقه على أنّه مشبوه.

هذا جانب من الحرب النفسيّة التي مارسها العدوّ عندما كان يزعم كاذباً أنّ قائداً في إيران هو عميل لإسرائيل أو أنّ مسؤولاً في الحزب في لبنان هو عميل لهم. وجماعة السعودية والإمارات كانوا يبتهجون في نشْر هذه الإشاعات مع أنّها تساعد العدوّ، ومع أنّهم بعيدون كلّ البُعد من خدمة المجهود الحربي الإسرائيلي لأنّ ذلك يكون عملاً غير وطني. ولا يمكن في التحقيق أن تفترض أنّ الكادر الذي نجا هو حُكماً مشبوه أو أنّ عنصراً ما ممّن تعرّض للاغتيال مِن قِبل العدوّ لا يمكن إلّا أن يكون بريئاً (العدوّ لا يمانع أبداً في قتْل عملائه).

العدوّ يرصد حركات كلّ عنصر مقاوم، ويراقب تحرّك أولاده وكلّ أفراد عائلته. هناك برنامج «لافندر» الذي يستعين بالذكاء الاصطناعي لرسم شبكة من المطلوبين الفلسطينيّين بناء على صفات تسِم المقاومين وغير المقاومين على حدّ سواء (هي كما قيل في تسريبات ترصد حركات كلّ فتى ورجل فلسطيني وتتعامل معه على أنّه إرهابي يستحق القتل).

البرنامج الرديف لـ«لافندر» يُسمّى «أين أبي؟» («Where’s Daddy»، والاسم مبنيٌّ على استعمال مبتذَل للعبارة بالإنكليزية) ويستطيع رصْد الابن أو الابنة لمعرفة عَودة الفتى أو الرجل إلى منزله، وهنا يقع القتْل (والبرنامج الإسرائيلي يسمح بقتل 15-20 بريئاً مدنيّاً على الأقل للوصول إلى شخص واحد مُستهدَف). هذه المعلومات عن طرائق رصْد العدوّ لحركة المقاومين وكلّ أفراد عائلاتهم يجب ألا تصيب كلّ مَن يفكّر بمعاداة أو مقاومة إسرائيل بالشلل.

لكنّ ثمن الانخراط في المقاومة باهظ وأشدّ بكثير ممّا كان في السابق. أيُّ خطأ في الحياة الشخصيّة (خطأ من حيث العيش الرغيد أو الاختلاط بالكثير من الناس أو الارتباط بعدد من النساء، وليس بمعنى الخطيئة، وهي تختلف باختلاف العقائد والأديان) يزيد من الخطورة ومن طرائق تسرّب العدوّ. إنّ تسريبات سنودن الهائلة لم تكن على ما نتنسَّم مِن الأداء مدروسةً ومقروءة مِن قِبل جمهور المقاوِمين، خصوصاً في لبنان. إنّ الحذر ممكن، لكنّ الحياة الحذرة صعبة وتحرِم المرء من رغبات الحياة ومُتعها.

إنّ حياة المقاومين ضدّ إسرائيل كانت صعبة دائماً، لكنّها تزداد صعوبة عبر السنوات والعقود. العدوّ يزداد وحشيّة وتزداد قدراته التجسّسيّة تعقيداً وكثافةً. إنّ العمل المطلوب مِن المقاومين كان دائماً كبيراً وجبّاراً، والحزب في تجربته قام بأعمال جبّارة ضدّ إسرائيل. لكنّ المطلوب اليوم بات أكبر من العمل الجبّار، وقد تُنتج المرحلة الراهنة -لو استمرّ الحزب في وجوده ككيان مقاوِم ضد إسرائيل- تنظيماً أصلب مِن قبل وأطرى عوداً، لكن أصغر حجماً، وهذه ليست نقيصة.

مِن مصلحة حركة المقاومة أن تنبذ من صفوفها المتطفّلين والمنتفِعين والوصوليّين والانتهازيّين. بعض هؤلاء هجروا الحزب عند أوّل ضربة، وحسناً فعلوا من منظور الحزب. لكن ليس كلّ من بقي في الحركة يجب أن يُعدّ كفؤاً بمقياس المرحلة المقبلة التي تتطلّب كفاءات أعلى وتضحيات أكبر بكثير.

وحتى لو توخّى المقاوِم الحذر، فإنّ الخطر الأكبر لا يزال متمثّلاً في الاختراق البشري الذي يتسرّب عبر ضعاف النفوس، وتزيد الحاجة الماديّة من حالات العرض، وبأسعار أقلّ من الماضي. وهذا ما قرأناه عن عملاء لإسرائيل في السنوات الماضية. هناك قَول بلغة أجنبيّة عن «العودة إلى الأساس» أو «العودة إلى طاولة التخطيط» من أجل إعادة النظر في كلّ التكتيكات والإستراتيجيات والخُطط والمفاهيم والفرضيّات والوسائل. هذا المفهوم ليس بعيداً أبداً من حزب الله.

إنّ الحزب في نشأته قرّر حكيماً أنّ كلّ خُطط عمل الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة وتكتيكاتها وأساليبها كانت كارثيّة. وهو نجح بقدر ما أهمل كلّ مسالك الماضي وطرائقه ومناهجه في المنطقة الغربية والجنوب. ابتكر الحزب وابتدع طرائق محاربة ومواجهة جديدة، ونبَذ الانفلاش الإعلامي من أساسه.

كان ياسر عرفات يكتب بنفسه بيانات إعلان المسؤوليّة عن عمليّات عسكريّة جرت ولم تجرِ (وحتى التي جرت تكون غالباً فاشلة أو تكون ناجحة لكن مِن قبل تنظيمات أخرى، وقد تكون ناجحة على يد «فتح» لكنّ بياناته كانت تعتمد على الكذب والمبالغة، ويقول أحمد جبريل إنّ أحد أسباب انفصال «جبهة التحرير الفلسطينيّة» عن «فتح» -وكان التنظيمان قد اندمجا لمدة قصيرة- كمَنَ في أكاذيب ياسر عرفات ومبالغاته). هل هناك مَن كان يتصوّر أنّ حسن نصرالله كان يدبّج بيانات مبالغة في السنوات الأولى من عمر التنظيم؟ على العكس. إنّ المصداقيّة التي كسبها الحزب -بنظَر أصدقائه وأعدائه- كانت نتيجة مباشرة لنبْذ الحزب للكذب والمبالغة في إعلامه الحربي.

(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة