في قطاع غزة، حيث تتشابك الحرب المستمرة مع الحصار الشديد، يعيش مرضى السكري معركة يومية للبقاء على قيد الحياة.
الأنسولين، الدواء الحيوي الذي يعتمد عليه آلاف المرضى يوميًا، أصبح نادرًا، والمراكز الصحية والمستشفيات شبه خالية من الأدوية الأساسية وأجهزة الفحص، بينما تحوّل نقص الدواء كل يوم إلى تهديد مباشر للحياة.
خوف وترقب
تقول أم معاذ شهوان، أم لطفل يبلغ 15 عامًا مصاب بالنوع الأول من السكري: “ابني رياض يحتاج إلى كميات كبيرة من الأنسولين، اليوم صرت أحسب نفسه قبل نومه لأنه ورث السكري من العائلة، لكن المرض تفاقم معه، مستوى السكر عنده يتقلب بشكل خطير منذ انقطع العلاج”.
واضافت “كل يوم أتنقل بين المراكز الصحية وأعود من دون أي إبرة. أنا خايفة على ابني لأنه صار نظره ضعيف”.
حياة أو موت
القصص الإنسانية تتكرر مع كل مريض، أم محمد زهد، وهي أم لطفل آخر، تصف الأزمة بالقول: “يحتاج ابني إلى الأنسولين يوميًا، ومنذ أسبوع لم نجد الدواء في المستشفيات أو الصيدليات، وأنا أشعر بعجز من رؤيته يضعف أمامي.
“الأنسولين ليس دواءً يمكن الاستغناء عنه أو تأجيله لأنه مسألة حياة أو موت، وكل جرعة مفقودة تعني خطر ارتفاع السكر في الدم، والغيبوبة، وربما الوفاة، وهذا ما يبقيني في خوف دائم على طفلي”، تتابع زهد.
أما محمد مقداد (66 عامًا)، فيجلس على كرسيه المعدني المهتز، يمرر يده على موضع البتر في ساقه.
ويقول بصوت موجع: “خسرت ساقي من المرض، لكن البتر ما كان مصيري لو كان العلاج موجود بوقته”.
يروي كيف بدأت المشكلة بجرح صغير في قدمه، لكنه حين قصد المراكز الصحية لم يجد أدوية أو ممرضين.
“لفّيت صيدليات ولم أجد مرهمًا ولا مضادًا، كل شيء فاضي، كانت رجلي تورم وتحمر وتوجع نار، وأنا حتى ما معي جهاز أعرف السكر لوين واصل”.
وعندما تمكن من الوصول إلى مستشفى المعمداني شرق غزة، كانت حالته قد تدهورت بشدة، الطبيب قال له بصراحة: “لو العلاج كان متوفر من البداية، ما كنا وصلنا للبتر”.
القصص لا تتوقف عند الأطفال أو كبار السن، فهي تمس كل من يعتمد على الأنسولين.
الأزمة تتفاقم
نادرة اليحيى مريضة سكري منذ أكثر من خمسة أعوام، تقول: “ليست معاناتي مع عدم توفر الأنسولين جديدة، إذ كانت الكميات محدودة للغاية قبل العدوان، لكن إغلاق المعابر ومنع دخول الأدوية منذ بدء الحرب فاقم الأزمة بشكل غير مسبوق. بدأت بتقنين الجرعات خوفًا من نفاد ما تبقى، لكن أشعر بدوار وتعب طوال الوقت. كل ما نطلبه هو الحق في الحياة فقط”.
محمد سلامة (42 عامًا)، مصاب بالنوع الثاني من السكري، يصف الوضع قائلاً: “كنت أظن في البداية أن الأزمة مؤقتة، لكن أصبح من الطبيعي الآن أن أذهب إلى ثلاث صيدليات من دون أن أجد شيئاً. تغيّرت حياتي. أشعر بتعب طوال الوقت، ويدور رأسي أحيانًا من ارتفاع السكر. أحاول أن أتناول طعامي بحذر، وأقلل الكمية كي لا أحتاج إلى جرعة كبيرة.
يكمل: “كل شيء يشعرني بخوف دائم، خصوصاً في ظل عدم متابعة حالتي طبياً. الحرب أصلاً حوّلت حياتنا إلى جحيم بسبب القصف والموت والتشريد وخسارة كل شيء، ونقص الدواء يخلق حرباً ثانية تهدد حياتنا بالموت البطيء”.
الأطباء يؤكدون أن الأزمة تتجاوز النقص الدوائي، لتصبح تهديدًا مباشرًا للحياة. الدكتور أحمد أبو طه، رئيس قسم الغدد الصماء في مستشفى غزة الأوروبي، يقول: “الوضع خطير للغاية في ظل اعتماد المرضى على الأنسولين يوميًا، وأي انقطاع في جرعاتهم قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة خلال أيام قليلة”.
يؤكد في تصريح صحفي أنه ومنذ اليوم الأول للحرب بدأت أزمة أدوية السكري، خصوصاً أدوية الأنسولين للنمط الأول. وحتى من استطاع توفير كميات محدودة، واجه صعوبة في حفظها بطريقة صحيحة بسبب انقطاع الكهرباء والتهجير المستمر، ما أثر على مستويات السكر في الدم.
غياب الأنسولين والفحوصات الدورية جعل المضاعفات تتفاقم بسرعة، بما في ذلك الفشل الكلوي، أمراض القلب، اعتلال الشبكية، التهابات خطيرة، وأحيانًا البتر.
يكمل ابو طه أن الأزمة الصحية في غزة مدفوعة بعوامل متعددة: منع دخول الشحنات الدوائية، تراجع التمويل الدولي، تدمير البنية التحتية، وغياب دعم مستدام للنظام الصحي. كل هذه الظروف تجعل حياة مرضى السكري رهينة ندرة الدواء وظروف التخزين السيئة.
وضع كارثي
بدوره قال الدكتور إسماعيل عبد المنعم، استشاري أمراض الباطنة والغدد: “الوضع الصحي لمرضى السكري في غزة أصبح كارثيًا. الأنسولين ليس مجرد دواء، بل هو مسألة حياة أو موت، وكل يوم يمر بدون توفره يعرض المرضى لمضاعفات خطيرة بسرعة، بما في ذلك الغيبوبة والوفاة المفاجئة”.
وأضاف في تصريح لمراسلنا: “النقص الحاد في الأدوية وأجهزة الفحص، بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء وصعوبة حفظ الدواء، يجعل متابعة المرضى شبه مستحيلة، ويزيد من خطر حدوث مضاعفات مثل الفشل الكلوي وأمراض القلب واعتلال الشبكية”.
وتابع: “نحن أمام أزمة صحية حقيقية تتطلب تحركًا عاجلًا من الجهات المعنية لضمان توفر الأنسولين، وإنقاذ الأرواح، وحماية حق المرضى في الحصول على العلاج الضروري دون تأخير”.