آخر الأخبار

أبو فراس… رحيلُ رجلٍ حمل وطنه في قلبه ومضى

c5cb06bf-a1fd-4755-ab98-e55e74c3dbf2

بقلم : عصام الحلبي

حين يرحل الكبار، يتركون فراغًا لا يُملأ، وذكرى لا تبهت مهما مرّ الزمن. وكذلك يغيب العقيد المتقاعد والمناضل الوطني الكبير محمد عيطان محمد كنعان (أبو فراس) تاركًا خلفه سيرة رجلٍ عاش عمره ملتزمًا بمبدأ، ثابتًا على قضية، وفيًّا لشعبٍ حمله في قلبه حتى آخر لحظة.

وُلِد أبو فراس في بيسان الفلسطينية عام 1941م، بيسان التي بقيت نبضًا حيًا في ذاكرته مهما بعدت به المنافي. فيها بدأ الفصل الأول من قصة طفلٍ لم يكد يتجاوز السابعة حتى حملته النكبة عام 1948م مع عائلته نحو المجهول، لكنّ الجرح الأول صار بوابة الوعي المبكر، والرحيل القاسي صار بداية لحياةٍ تكتبها العودة والذاكرة والمخيم.

استقرت الأسرة في عمّان، وهناك تابع أبو فراس دراسته في مدارس وكالة الغوث. ومنذ نعومة أظفاره كان يشعر بأن التعليم ليس مجرد كتب، بل رسالة تتجاوز الصفوف الضيقة، في كل صباحٍ مدرسي كان يرى وطنًا غائبًا، ويرى مخيمًا يتنفس الصبر ويعلّق الأحلام على أعتاب العودة.

كبر الفتى، وكبر معه الإحساس بالمسؤولية. وفي عام 1967م التحق بصفوف حركة فتح في منطقة الأغوار – تل الأربعين، مشاركًا في العمليات الفدائية داخل الأرض المحتلة، لم يكن يبحث عن بطولة، بل عن واجبٍ يفرضه الانتماء، ورغم حضوره في ساحات القتال، كان قبل كل شيء رجل مواقف، مواقفه أقوى من صوت المدافع، وكلمته أثبت من رصاص البندقية. وفي كل محطات الثورة وقف أبو فراس حيث يجب أن يقف، حاضرًا بثباته، لا تزعزعه ريحٌ ولا تُغريه رتبة.

وفي العام 1989 عرفته إنسانًا بسيطًا، محبًا صادقًا، وقائدًا صلبًا لا تهزه الرياح ولا تثنيه المصاعب عن أداء واجبه. لم يكن بعيدًا عن إخوته ورفاق دربه، وفي أشد الظروف وانشغالاتها كان يجد وقتًا لزيارة رفاقه والاطمئنان على عوائل الشهداء. كان ذاكرةً حية تروي تاريخ ثورة، وصدق انتماء لا يشوبه تردد ولا تراجع.

شارك في كل محطات الدفاع عن الثورة، وتنقّل في ساحات النضال ليستقر في مخيم عين الحلوة في لبنان، حيث عرفه الناس باسمه وبفعله وبأخلاقه. هناك، في المخيم الذي صار بيتًا وميدانًا ومسؤولية، واصل مسيرته الكفاحية، مجتازًا دورات عسكرية في الهامة والقاهرة والباكستان، ومتدرجًا في مواقع عدة، ضابط تسليح لكتيبة بيت المقدس، قائد سرية، ثم قائد كتيبة وحدة الهندسة.
وفي كل هذه المحطات المصيرية، كان أبو فراس حاضرًا كتفًا لكتف مع رفاقه، ثابتًا في موقعه، مدافعًا عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل، مؤمنًا بأن حماية المخيم حماية للذاكرة، وأن الثورة ليست بندقية فحسب، بل مسؤولية تمتد من ساحات القتال إلى تفاصيل الحياة اليومية.

تقاعد عام 2008م برتبة عقيد، لكنه ظلّ عند محبيه أكبر من أي رتبة، أحبّ لقب “مناضل” لأنه يعني له الكثير، وربّى أبناءه الخمسة على القيم التي عاش بها، الانضباط، الأخلاق، والانتماء النظيف. عاش بسيطًا، قريبًا من الناس، لا يتردد في مساعدة محتاج ولا في تهدئة خصومة، وكان صوته حاضرًا في كل موقف يتطلب الحكمة.

وفي سنواته الأخيرة أجهده المرض، لكنه لم ينل من صبره ولا من سكينة روحه،وحين جاء القدر، أسلم الروح يوم السبت 22/11/2025م، وصُلّي عليه في مسجد الهدى بالمخيم يوم الإثنين 24/11/2025م، ثم شيّع إلى مقبرة درب السيم القديمة في عين الحلوة، المخيم الذي ظلّ عنوانًا للعودة وخزانًا للثورة، حيث يرقد اليوم بين أهله ورفاق دربه.
يرحل أبو فراس جسدًا، ويبقى أثره، و تبقى مواقفه حاضرة في ذاكرة من عرفوه، ويبقى حضوره شاهدًا على رجلٍ صدق ما عاهد الله عليه. فالرجال الذين يحملون الوطن في قلوبهم لا يموتون، بل يتحولون إلى إرثٍ يعلّم، ورسالةٍ تُروى، ونورٍ يهتدي به اللاحقون.
سلامٌ على روحه، وسلامٌ على سيرته، وسلامٌ على رجلٍ عاش ثابتًا ورحل كريمًا، وبقي في الذاكرة ما بقيت فلسطين.

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة