آخر الأخبار

هدف العدو أبعد من السلاح: تفكيك المجتمع والهوية

1 (1)

علي حيدر

ليس جديداً أن تتصدّر المقاومة سلّم أولويات مراكز البحث الإسرائيلية التي تُعنى بمتابعة فكر حزب الله وقدراته وخياراته ومستقبله. فهذه المؤسسات لا تعمل بوصفها منتديات أكاديمية محايدة، بل تشكّل الذراع التحليلية لصانع القرار، وواحدة من الأدوات التي تسترشد بها المؤسسة الرسمية في قراءة المشهد الإقليمي وتحديد وجهة السياسات. إلا أنّ إسهاماتها بعد الحرب الأخيرة، وفي ضوء التحوّلات التي طرأت على البيئة الإقليمية، تكتسب أبعاداً إضافية تتجاوز التحليل النظري، لتكشف عن اتجاهات التفكير الإسرائيلي وأهدافه، وعن كيفية نظرته إلى الصراع مع المقاومة في لبنان والمنطقة.

والمتتبّع لما تنشره هذه المراكز يلحظ أنّ مقارباتها تُجمع على أنّ التحدّي لا يكمن حصراً في القدرات العسكرية للمقاومة، بل في البنية الاجتماعية والثقافية التي تستند إليها. وهي مقاربة باتت جزءاً من الإدراك السياسي – الأمني للمؤسسة الإسرائيلية، وليست حكراً على الباحثين.

في هذا السياق، تبرز دراسة لمعهد «مسغاف» للأمن القومي والاستراتيجي، أعدّها الخبير في شؤون حزب الله وإيران يوسي منشروف، تؤكد أن التهديد المحدق بإسرائيل لا يقتصر على الصواريخ، وإنما جوهره يكمن في المجتمع الذي أنتج المقاومة ويستمر في إنتاجها، والذي أثبت خلال الحرب الأخيرة صلابة استثنائية، وأسهم في إحباط الأهداف الاستراتيجية التي راهن عليها قادة العدو.
فالمقاومة، في هذا الفهم، ليست بنية عسكرية معزولة، بل تعبير عن وعي جماعي وسردية تراكمت عبر عقود، وعن ذاكرة للصراع، وعن معادلة وطنية حظيت باحتضان شعبي واسع. وقد مكّنت هذه المقاومة لبنان من تحرير أرضه واستعادة سيادته، وأتاحت للدولة أن تبسط سلطتها على الجغرافيا اللبنانية.

والأهم في قراءة «مسغاف» أنّها تتضمن إقراراً صريحاً بأن حزب الله ليس حالة مفروضة على مجتمعه كما يحاول البعض التسويق، وأنّ المقاومة هي تجسيد لإرادة المجتمع، وأن العلاقة بين الطرفين ليست علاقة استتباع، بل علاقة تفاعلية تترجم طموح الجماعة ورؤيتها لموقعها ودورها في الإقليم.

وانطلاقاً من هذا التشخيص، تتجاوز المقاربة الإسرائيلية هدف «تفكيك السلاح» الذي يبقى ثابتاً في كل القراءات إلى محاولة إعادة تشكيل المشهد اللبناني من جذوره. فالسلاح – في نظر المخطّط العسكري – قد يُدمَّر بعملية أو سلسلة اغتيالات، أما روح المقاومة وثقافتها، وكونها خيار مجتمع، فهي التحدّي الأصعب والأكثر تعقيداً، خاصة أن هذه الثقافة والروح قادرتان على الاستفادة من التجارب وإعادة إنتاج ما هو أكثر ملاءمة مع المتغيرات من موقع الصمود والتصميم والثبات.

ولهذا تركّز الدراسات الإسرائيلية على إنهاء البنية الثقافية والتربوية للمجتمع المقاوم، عبر عناوين متعددة، تبدأ بمحاولة تفكيك الفكر الذي ينتج الشعور بالقوة والاستقلال، ولا تنتهي بمحاولة ضرب شبكات الخدمات الاجتماعية التي تشكّل الرابط العضوي بين المقاومة وبيئتها. كما تسعى إلى إضعاف شرعية المقاومة داخل مجتمعها عبر خطاب سياسي إعلامي مدروس من الواضح أنه موكل إلى بعض الداخل اللبناني.

ويدرك العدو أنّ المقاومة، بمؤسساتها وخدماتها وأنشطتها، تحتاج إلى دعم وتمويل، خصوصاً في مواجهة أعداء يمتلكون فائضاً من المال والسلاح والتكنولوجيا. وهنا تحضر إيران كداعم رئيسي، لا كما يروّج الخطاب الإسرائيلي بأنها «مركز القرار» في خيارات مجتمع المقاومة، بل لأنها توفر سنداً مادياً ومعنوياً لمشروع اختاره اللبنانيون في مواجهة الاحتلال والهيمنة. وعلى خط موازٍ تتكثف الحملات الإعلامية والسياسية الهادفة إلى تقويض السردية التاريخية والأخلاقية للمقاومة.

بهذا المعنى، يصبح السلاح عنواناً افتتاحياً للصراع، بينما الهدف النهائي هو أبعد من ذلك عبر إعادة هندسة المجتمع الذي يُنتج المقاومة ويمنحها مشروعية البقاء. ولكن من أجل التمكن من القيام بهذه المهمة، المطلوب تجريد المجتمع من عناصر قوته ومن ضمنها السلاح.
بالموازاة، تحذّر دراسة «مسغاف» واشنطن وتل أبيب من التفكير بمنطق الإنجاز السريع: اغتيال قائد، إحباط تهريب، ضربة جوية… ثم انتظار نتيجة سياسية حاسمة لا تأتي. فالمقاومة، كما تقول الدراسة نفسها، تعمل بمنطق مغاير تماماً؛ إذ تبني الإنسان قبل السلاح، والمعنى قبل القوة، وتنسج شبكة من المؤسسات تجعل المشروع جزءاً من الحياة اليومية للمجتمع لا مجرد إطار عسكري.
وهذا الفارق في الزمن والأفق هو ما يجعل المقاربة العسكرية الإسرائيلية، مهما بلغت دقّتها، أشبه بمحاولة معالجة الأعراض من دون الاقتراب من الأسباب العميقة.

ومن يقرأ ما بين سطور الدراسة يدرك أن الصراع، في نظر العدو، هو حرب على الوجدان والهوية والوعي بموازاة كونها حرباً للاستيلاء على الأرض أيضاً. ولذلك تتحدّث الورقة عن استهداف «النفوس والوعي والوجدان»، وهي عبارة تكشف بوضوح طبيعة الرهان الإسرائيلي: تفكيك المقاومة من داخل الإنسان، لا من بين يديه فقط.

لكن أهمية الورقة تكمن أيضاً في الإقرار الضمني الذي تتضمنه: فشل نماذج الردع السابقة؛ محدودية أثر العمليات العسكرية؛ ضعف الرهان على تغيّر داخلي في لبنان؛ واستحالة كسر حزب الله من دون تغيير بيئته.
وهذا ما يفضح أزمة استراتيجية حقيقية: فإسرائيل لا تواجه تنظيماً مسلحاً، بل مجتمعاً متجذراً في التاريخ والثقافة، يتجدد عبر الأجيال ويملك روايته الخاصة عن نفسه وعن العالم.

في الخلاصة، يتبيّن أن الصراع لا يقف عند حدود الصاروخ أو القائد أو الكادر، وإن كان لكل منها دوره وموقعه، بل يمتد إلى الهوية والوجود. ولأن العدو يدرك هذه الحقيقة، فهو يخشى أن تتكرس البنية التي أرساها الشهيد السيد حسن نصر الله فتحول دون تحقيق أطماعه. وفي المقابل يدرك حزب الله أن النصر لا يُصنع في ساحات الميدان وحدها، بل في عمق الوعي، وفي ترسيخ حقيقة أن المقاومة للبنان شرط بقاء لا شرط كمال. أما الدولة اللبنانية، فهي تبقى في المساحة بين غياب عن معركة الشرعية والمعنى والدور، وبين تماهٍ مع أطراف تتربّص بالمقاومة سلاحاً وخياراً وثقافةً ومجتمعاً.

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة