آخر الأخبار

إبراهيم بين القرآن والتوراة

n00991448-b

الشيخ ماهر حمود

يشكّل النبي إبراهيم إحدى أبرز الشخصيات الدينية المشتركة بين اليهودية والمسيحية والإسلام. ورغم اختلاف السياقات التاريخية واللاهوتية للنصوص، إلا أنّ القراءة المقارنة تكشف تشابهاً لافتاً في القضايا الجوهرية المرتبطة بسيرته، خصوصاً في موضوع العهد الإلهي، وترك الأصنام، والانفصال عن قومه، إضافة إلى الدعوة الصريحة إلى التوحيد. هذه الدراسة تستعرض أبرز نقاط الالتقاء بين القرآن الكريم والتوراة، مع الإشارة إلى بعض الشروحات rabbinic commentary التي تناولت هذه المرويات.
أولاً: العهد الإلهي ورفض الظلم
يرد في القرآن الكريم قوله تعالى على لسان الله تعالى لإبراهيم: «لا ينال عهدي الظالمين» (البقرة 124)، وهو نص يؤسس لفكرة مركزية مفادها أن العهد الإلهي لا يُمنح لمن يمارس الظلم، مهما كانت نسبته أو مكانته.
وفي المقابل، تورد التوراة في سفر التكوين إشارات مشابهة وإن اختلفت الصياغة. ففي سياق الحديث عن العهد مع إبراهيم، يَرِد: «وَأُثِيرُ ذُرِّيَّتَكَ… وَأَكُونُ إِلَهَهُم» (تكوين 17: 7)، ويليه اشتراط بيّن للطاعة، كما في: «تَسْلُكُ أَمَامِي وَتَكُونُ كَامِلاً» (تكوين 17: 1).
ويرى بعض المفسرين اليهود، مثل الرابي راشي (Rashi)، أنّ «الكمال» هنا يعني الابتعاد عن الخطايا ورفض الظلم، وهو تفسير قال بعض الباحثين إنّه يوازي من حيث المبدأ الآية القرآنية المذكورة.
ثانياً: إبراهيم وترك الأصنام
يتفق القرآن والتوراة في تقديم إبراهيم كشخصية مؤمنة رفضت عبادة الأصنام.
فالقرآن يروي موقفه الحاسم: «إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُون» (الزخرف 26).
وفي التوراة، يظهر هذا البُعد في إشارة تاريخية بالغة الأهمية في يشوع 24: 2: «سَكَنَ آبَاؤُكُمْ… وَعَبَدُوا آلِهَةً أُخْرَى».
ويعلّق الرابي موسى بن ميمون (Maimonides) في كتابه «الهداية» على هذا النص بالقول إن إبراهيم «اكتشف بطلان الأصنام بالنظر العقلي»، وهو طرح ينسجم مع الخطاب القرآني الذي يبرز محاورة إبراهيم لقومه في نقد الأوثان.

تكشف القراءة المقارنة بين القرآن والتوراة عن مجموعة من المساحات المشتركة

ثالثاً: البراءة من أبيه
يرد في القرآن: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه» (التوبة 114)، كما يرد قوله: «إذ قال لأبيه وقومه إنني براءٌ مما تعبدون» (الزخرف 26).
أمّا التوراة، فتتضمّن ملمحاً غير مباشر لهذا الانفصال، عبر أمر الله لإبراهيم: «اِذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ» (تكوين 12: 1).
ويرى المفسر اليهودي ابن عزرا (Ibn Ezra) أن هذا الأمر يعكس «قَطعاً تاماً للعلاقة الدينية مع بيت الأب الذي كان غارقاً في عبادة الأصنام»، في إشارة تتقاطع مع الرواية القرآنية.
رابعاً: المفاصلة مع قومه
القرآن يبرز هذا المشهد بوضوح: «قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين» (الأنبياء 54).
وفي التوراة، يظهر البُعد ذاته عندما يطلب الله من إبراهيم الرحيل عن قومه: «من عشيرتك ومن بيت أبيك» (تكوين 12: 1)، بما يفهم منه – في التفسير اليهودي – انفصال فكري وديني وليس جغرافياً فحسب، بحسب ما يورد Midrash Rabbah.
خامساً: الدعوة إلى التوحيد
القرآن ينسب إلى إبراهيم تأسيس مدرسة التوحيد الخالص: «إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً» (الأنعام 79).
أمّا التوراة، فلا تورد نصاً دعوياً مباشراً، لكنها تقدّم إبراهيم كصاحب علاقة فردية مع «الإله الواحد»، وتستخدم النص عبارة: «فَآمَنَ بِالرَّبِّ فَحسبهُ لَهُ بِرّاً» (تكوين 15: 6).
وتشير التفاسير اليهودية، مثل Sifre، إلى أن إبراهيم هو أول من «نادى باسم الرب» داخل بيئة وثنية، ما يشكّل نقطة التقاء مهمة مع الرؤية القرآنية.
خلاصة
تكشف القراءة المقارنة بين القرآن والتوراة عن مجموعة من المساحات المشتركة:
1. التشديد على مفهوم العهد الإلهي القائم على الطاعة والبراءة من الظلم.
2. تصوير إبراهيم كقائد لحركة توحيدية في مواجهة مجتمع وثني.
3. بروز علاقة متوترة مع بيت الأب والقوم نتيجة اختلاف ديني جذري.
4. اتفاق النصين على تقديم إبراهيم كمنظّر مبكر لفكرة الإله الواحد في مواجهة التعددية الوثنية.
ورغم الفوارق اللاهوتية بين النصين، إلا أنّ صورة إبراهيم في كليهما تستمر باعتبارها رمزاً للبحث عن الحقيقة، والانحياز إلى التوحيد، والقطيعة الأخلاقية مع الظلم والشرك.
* رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة