أسعد أبو خليل
حربُ الإسناد: هل كانت نصراً أم هزيمةً؟ (1)
يصعبُ الحديثُ عن النصر والهزيمة في السياق العربي لأنّ الكلام هنا محفوف بدعاية سياسيّة هائلة للأنظمة منذ 1948. أصبح الزعمُ بالنصرِ جزءاً من عمليّة اكتساب الشرعية السياسيّة للنظام. أنظمةٌ كانت تتحدّث عن فلسطين (مثل نظام حسني الزعيم أو الشيشكلي أو النظام اللّبناني) كانت في السرّ تتواصل مع إسرائيل لطمأنتِها (وإنْ بوتيرة طمأنة تقلُّ عن وتيرة الجهادي الحاكم في الشام اليوم). النظام الناصري اكتسب شرعيّة هائلة من فلسطين ودفع أثماناً غالية بسبب موقفه (تماماً كما أنّ النظام الإيراني دفعَ ويدفعُ أثماناً هائلة -فقط- بسبب موقفه المناهض لإسرائيل). عبد الناصر أطلقَ حركة مقاومة في غزّة، وكانت هي المقاومة الفلسطينيّة في حالتها الجنينيّة. لكنّ الفعلَ العربي كان أقلّ بكثير من الخطاب والإعلانات. هذه بدأت في حرب 1948. عودوا إلى الصحافة العربيّة في عام 1948 لتكتشفوا أنّ كلّ الأنظمة العربيّة والقيادات الفلسطينيّة كذبت على الشعب العربي.
لم تكن الحكومات العربيّة تحتمل أن ترتبطَ بهزيمة ضدّ إسرائيل لأنّ النكبة أسهمت في إسقاط عدد من الأنظمة العربيّة. النظام البعثي تشبّعَ بالمزايدة وأصبحت مزاعمُ النصرِ جزءاً من خطاب الحُكم السوري والعراقي البعثي. صاحبَ الحروبَ مع إسرائيل الكثيرُ من البطولات الوهميّة والادّعاءات الفارغة. الشعبُ العربي لم يعلم عن النكبة إلّا بعد وقوعها. لم تكن هناك مواقع تواصل اجتماعي بعد. والمواجهة الأولى بعد 1948 كانت في سيناء يوم العدوان الثلاثي على مصر. الجيش المصري كان في حالة يُرثى لها والرئيس المصري لم يكن قد أحكم بنيان حُكمه ولم يكن يوماً يسيطر فعليّاً على جيشه إلّا بعد الهزيمة وسقوط عبد الحكيم عامر. بالغَ النظام المصري آنذاك في سرديات البطولة التي لا يمكن إنكارها في حالات منعزلة.
لكنّ الجيش كجيش لم يُبلِ بلاءً حسناً. في سيناء هاجمت إسرائيل بسرعة وتفوّقت بسرعة وقيادة الجيش كانت في حالة فوضى وأوامر متناقضة. وكان التجهيز وقطاع الاتّصالات ضعيفَين جدّاً. كان هناك تصدٍّ بطولي في معركة ممرّ متلا، ولكنّه لم يكفِ أمام التفوّق الإسرائيلي. الجيش البريطاني قضى على الطيران المصري بسرعة أيضاً. والمقاومة الشعبيّة كانت رمزيّة أكثر ممّا كانت فاعلة ومؤثّرة في المعركة. لكنّ صمود عبد الناصر وإصراره على رفْض مضاعفات الهزيمة (من دون إطلاق الوصْف) أفشلَ العدوان وبخاصّة أنّ أميركا لم تكن موافقة على العدوان لأسبابها هي (لا نزال نعوّلُ على إمكانيّة صحوة أميركيّة ونتمثّل بأيزنهاور كأنّه كان ينتصر للحقّ العربي آنذاك، فيما كان هو يفرض هيمنة أميركيّة من خلال إذلال الاستعمار البريطاني ورفْض الرغبة الإسرائيليّة في تجاهل المخطّطات والحسابات الأميركيّة في العالم العربي).
لكنّ الهزيمة كانت هزيمة وكان يجب الاعتراف بأنّها هزيمة. لو أنّ النظام المصري أجرى محاسبة ومراجعة في حينه وأصرَّ على إعادة تشكيل القوات المسلّحة المصريّة وبنائها لأمكنَ تفادي الهزيمة الأكبر في 1967. النظام المصري انتشى بكسْر إرادة العدوان مِن قِبل أميركا وجعل من قصّة المقاومة الشعبيّة رواية للأجيال مستفيداً منها لإسباغ مشروعية سياسية إضافيّة على النظام الفتي.
حرب 1967 كانت درساً آخر في الإنكار. كان معروفاً أنّ الجيوش العربية لم تكن معدّة، وارتكبَ عبد الناصر خطأً مميتاً عندما وثِق بعهد قطعه عبد الحكيم عامر (على «رقبته») بأنّ قوّاته جاهزة للدفاع والهجوم. كرّرَ غير مرّة أنّه يمكنه امتصاص الضربة الأولى. سعد الدين الشاذلي كان على حقّ أنّ القيادة كانت تعيش على وهْم القدرات. ولم يملك عبد الناصر جهازاً مستقلاً كي يعطيه صورة محايدة ومستقلّة عن مستوى الإعداد والتجهيز العسكري. لكنْ هذا ليس عذراً. لقد اختبر عبد الناصر عامراً في السويس وفشلَ واختبره في تجربة الوحدة والانفصال في 1961 وفشلَ واختبره في حرب اليمن وفشلَ فشلاً ذريعاً، ثم أتت الهزيمة الكبرى في 1967.
الإعلام المصري انتشى بالأوهام لمصلحة النظام عشيّة الحرب واستمرّ في الترويج للوهم عندما كانت الإذاعات العالميّة تتحدّث عن هزيمة شنيعة تلقّتها الجيوش العربيّة كافّةً على مختلف الجبهات. لماذا استمرّت الأكاذيب على مدى ساعات وأيّام؟ وحده عبد الناصر في النظام تجرّأ على المصارحة والمكاشفة يوم استقالته الفريدة. وإعادة البناء بعد 1967 كانت ناجحة جدّاً وهي مسؤولة بالدرجة الأولى عن الأداء المُبهر للجيش المصري في أوّل أيام حرب أكتوبر، قبل أن يحوّل السادات النصر إلى هزيمة محاباةً منه للإدارة الأميركيّة وسعياً نحو السلام مع إسرائيل.
لم تكن الحكومات العربيّة تحتمل أن ترتبطَ بهزيمة ضدّ إسرائيل لأنّ النكبة أسهمت في إسقاط عدد من الأنظمة العربيّة