آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّـة [29]

2

أسعد أبو خليل

حربُ الإسناد: هل كانت نصراً أم هزيمةً؟ (1)
يصعبُ الحديثُ عن النصر والهزيمة في السياق العربي لأنّ الكلام هنا محفوف بدعاية سياسيّة هائلة للأنظمة منذ 1948. أصبح الزعمُ بالنصرِ جزءاً من عمليّة اكتساب الشرعية السياسيّة للنظام. أنظمةٌ كانت تتحدّث عن فلسطين (مثل نظام حسني الزعيم أو الشيشكلي أو النظام اللّبناني) كانت في السرّ تتواصل مع إسرائيل لطمأنتِها (وإنْ بوتيرة طمأنة تقلُّ عن وتيرة الجهادي الحاكم في الشام اليوم). النظام الناصري اكتسب شرعيّة هائلة من فلسطين ودفع أثماناً غالية بسبب موقفه (تماماً كما أنّ النظام الإيراني دفعَ ويدفعُ أثماناً هائلة -فقط- بسبب موقفه المناهض لإسرائيل). عبد الناصر أطلقَ حركة مقاومة في غزّة، وكانت هي المقاومة الفلسطينيّة في حالتها الجنينيّة. لكنّ الفعلَ العربي كان أقلّ بكثير من الخطاب والإعلانات. هذه بدأت في حرب 1948. عودوا إلى الصحافة العربيّة في عام 1948 لتكتشفوا أنّ كلّ الأنظمة العربيّة والقيادات الفلسطينيّة كذبت على الشعب العربي.
لم تكن الحكومات العربيّة تحتمل أن ترتبطَ بهزيمة ضدّ إسرائيل لأنّ النكبة أسهمت في إسقاط عدد من الأنظمة العربيّة. النظام البعثي تشبّعَ بالمزايدة وأصبحت مزاعمُ النصرِ جزءاً من خطاب الحُكم السوري والعراقي البعثي. صاحبَ الحروبَ مع إسرائيل الكثيرُ من البطولات الوهميّة والادّعاءات الفارغة. الشعبُ العربي لم يعلم عن النكبة إلّا بعد وقوعها. لم تكن هناك مواقع تواصل اجتماعي بعد. والمواجهة الأولى بعد 1948 كانت في سيناء يوم العدوان الثلاثي على مصر. الجيش المصري كان في حالة يُرثى لها والرئيس المصري لم يكن قد أحكم بنيان حُكمه ولم يكن يوماً يسيطر فعليّاً على جيشه إلّا بعد الهزيمة وسقوط عبد الحكيم عامر. بالغَ النظام المصري آنذاك في سرديات البطولة التي لا يمكن إنكارها في حالات منعزلة.
لكنّ الجيش كجيش لم يُبلِ بلاءً حسناً. في سيناء هاجمت إسرائيل بسرعة وتفوّقت بسرعة وقيادة الجيش كانت في حالة فوضى وأوامر متناقضة. وكان التجهيز وقطاع الاتّصالات ضعيفَين جدّاً. كان هناك تصدٍّ بطولي في معركة ممرّ متلا، ولكنّه لم يكفِ أمام التفوّق الإسرائيلي. الجيش البريطاني قضى على الطيران المصري بسرعة أيضاً. والمقاومة الشعبيّة كانت رمزيّة أكثر ممّا كانت فاعلة ومؤثّرة في المعركة. لكنّ صمود عبد الناصر وإصراره على رفْض مضاعفات الهزيمة (من دون إطلاق الوصْف) أفشلَ العدوان وبخاصّة أنّ أميركا لم تكن موافقة على العدوان لأسبابها هي (لا نزال نعوّلُ على إمكانيّة صحوة أميركيّة ونتمثّل بأيزنهاور كأنّه كان ينتصر للحقّ العربي آنذاك، فيما كان هو يفرض هيمنة أميركيّة من خلال إذلال الاستعمار البريطاني ورفْض الرغبة الإسرائيليّة في تجاهل المخطّطات والحسابات الأميركيّة في العالم العربي).
لكنّ الهزيمة كانت هزيمة وكان يجب الاعتراف بأنّها هزيمة. لو أنّ النظام المصري أجرى محاسبة ومراجعة في حينه وأصرَّ على إعادة تشكيل القوات المسلّحة المصريّة وبنائها لأمكنَ تفادي الهزيمة الأكبر في 1967. النظام المصري انتشى بكسْر إرادة العدوان مِن قِبل أميركا وجعل من قصّة المقاومة الشعبيّة رواية للأجيال مستفيداً منها لإسباغ مشروعية سياسية إضافيّة على النظام الفتي.
حرب 1967 كانت درساً آخر في الإنكار. كان معروفاً أنّ الجيوش العربية لم تكن معدّة، وارتكبَ عبد الناصر خطأً مميتاً عندما وثِق بعهد قطعه عبد الحكيم عامر (على «رقبته») بأنّ قوّاته جاهزة للدفاع والهجوم. كرّرَ غير مرّة أنّه يمكنه امتصاص الضربة الأولى. سعد الدين الشاذلي كان على حقّ أنّ القيادة كانت تعيش على وهْم القدرات. ولم يملك عبد الناصر جهازاً مستقلاً كي يعطيه صورة محايدة ومستقلّة عن مستوى الإعداد والتجهيز العسكري. لكنْ هذا ليس عذراً. لقد اختبر عبد الناصر عامراً في السويس وفشلَ واختبره في تجربة الوحدة والانفصال في 1961 وفشلَ واختبره في حرب اليمن وفشلَ فشلاً ذريعاً، ثم أتت الهزيمة الكبرى في 1967.
الإعلام المصري انتشى بالأوهام لمصلحة النظام عشيّة الحرب واستمرّ في الترويج للوهم عندما كانت الإذاعات العالميّة تتحدّث عن هزيمة شنيعة تلقّتها الجيوش العربيّة كافّةً على مختلف الجبهات. لماذا استمرّت الأكاذيب على مدى ساعات وأيّام؟ وحده عبد الناصر في النظام تجرّأ على المصارحة والمكاشفة يوم استقالته الفريدة. وإعادة البناء بعد 1967 كانت ناجحة جدّاً وهي مسؤولة بالدرجة الأولى عن الأداء المُبهر للجيش المصري في أوّل أيام حرب أكتوبر، قبل أن يحوّل السادات النصر إلى هزيمة محاباةً منه للإدارة الأميركيّة وسعياً نحو السلام مع إسرائيل.

لم تكن الحكومات العربيّة تحتمل أن ترتبطَ بهزيمة ضدّ إسرائيل لأنّ النكبة أسهمت في إسقاط عدد من الأنظمة العربيّة

شعرَت كلّ الأنظمة أنّ الاعتراف بالهزيمة يشكّل خطراً على وجودها. وكان هذا أسهل بوجود الإعلام المركزي المُوجَّه، لكنّ الإذاعات العالميّة كانت في متناول الشعب العربي. عاش العرب حالة من الانفصام: إذاعات غربيّة وإسرائيليّة تُمعِن في إذلال العرب والسخرية من هزائمهم العسكريّة، وإعلام عربي منفصلٌ عن الواقع ومُصرٌّ على إحياء بطولات عنترة وأبو زيد الهلالي. والشعب العربي كان شديد التفاؤل في تلك المرحلة ولم يكن على بيّنة من القدرات المحدودة للجيوش العربيّة. أذكرُ في سن السابعة بعد خطاب الاستقالة في 1967 كيف أنّ «الكبار» خرجوا من منازلهم في حيّ المزرعة وكانوا يهتفون (أذكر الهتاف كأنّه بالأمس) «أبو خالد، يا حبيب، بدنا نحرّر تل أبيب».
كيف أنّ الهتاف كان منفصلاً عن حالة الهزيمة الكارثيّة. كيف يمكن تحرير تل أبيب والجيوش عاجزة عن تحرير الأراضي الجديدة التي احتلّتها إسرائيل في تلك الحرب؟ كان خطاب عبد الناصر قبل الهزيمة واقعيّاً ولم يكن (على طريقة «البعث» أو طريقة حديث الجهاد من الملك فيصل) يعدُ بفتوحات وشيكة أو بنصر قريب. كان يجاهر بعدم استعداده، لكن مزايدات «البعث» السوري والصراعات في داخل النظام أطلقت العنان لانفعاليّة لم نعهدها في حالة عبد الناصر عشيّة حرب 1967. صعود منظّمة التحرير شكّل صورة كاريكاتوريّة عن الواقعيّة والدقّة في وصْف الحالة العسكريّة. كلام أحمد الشقيري قبل النكبة أظهره مهرِّجاً متيقِّناً مِن نصْر عربي لم يكن متاحاً. هدّدَ ووعدَ ورغى وأزبدَ من دون طائل.
لكنّه ظُلم مرتَين: المرة الأولى لأنّ اللّوبي الصهيوني نسب إليه زوراً أنّه هدَّد برَمْي اليهود في البحر. لم يهدّد بذلك لكنّه شكّك في قدرتهم على البقاء بعد الحرب (الذي كان أوّل من هدّدَ برمي اليهود في البحر كان حسن البنّا في جريدة «المصوّر» عام 1948). وظُلم أيضاً لأنّ صعود ياسر عرفات صُوِّرَ على أنّه إيذان بمرحلة جديدة تقطع مع مرحلة الخُطب الرنّانة والكلام الأجوف والتهديدات الفارغة والبطولات الوهميّة. بالمقارنة مع ياسر عرفات، كان أحمد الشقيري رصيناً وجدّياً. صعود «فتح» وتولّي عرفات مقدّرات منظّمة التحرير (بالنيابة عن أنظمة الخليج) دشّنَ لمرحلة من القيادة اللّامسؤولة التي تستعمل البيانات العسكريّة لكسْب المؤيّدين مِن دون أيّ حساب للحقائق على أرض المعركة (عندما تكون هناك معارك في الحالات النادرة).
تراجعون البيانات الأولى لـ«العاصفة» (الجناح العسكري لحركة «فتح») فتتبيّنون على الفور التهريج الكلامي العرفاتي وضخّ الأكاذيب والمبالغة الفظيعة. العمليّة الأولى كانت فاشلة لكنّها صوّرت كأنّ بركاناً أصاب إسرائيل. وبقي عرفات على هذا المسار حتى أوسلو عندما انتقل عرفات من سرقة مسؤوليّة كلّ العمليّات العسكريّة لقوى المقاومة ونسبها إلى تنظيمه (والكثير منها كان فاشلاً، لنعترف بحرقة) إلى قمع كلّ أعمال المقاومة ضدّ إسرائيل لأنّ المهمة لُزّمت له مِن قِبل الاحتلال، وكان هذا سبب قبول إسرائيل بعودته المنقوصة السيادة والحريّة.
وكلّ مسار عرفات كان مليئاً بالمبالغة والهوبرة والتهريج والكذب والتزوير واختلاق البطولات في المعارك. انطلاق عمليّات «العاصفة» كان فاشلاً، كما أنّ «معركة الكرامة» قام بالدور الأكبر فيها الجيش الأردني (مدفعية مشهور حديثة بصورة خاصّة) ولم يكن لعرفات دور فيها على الإطلاق. عرفات كتب قصّة من وحي الخيال عن دور المقاومة في تلك المعركة في عام 1967 وهي كانت العامل الأساسي في اندفاع الآلاف من المتطوّعين إلى صفوف المقاومة في الأردن ولبنان وسوريا. كان ذلك بناء على سرديّة لعرفات مفادها أنّه على وشك إلحاق الهزيمة بالجيش الإسرائيلي.
ترجعون للكتاب السنوي لحركة «فتح» وتقرؤون نصوص البيانات العسكريّة وتصِلون إلى خلاصة أنّ إسرائيل كانت بعد كلّ عمليّة لـ«فتح» على وشك الانهيار جراء عمليّات ياسر عرفات. وحتى الفصائل اليساريّة فشلت في تشكيل قوى عسكريّة مؤثّرة رغم وجود آلاف مؤلّفة من المقاتلين الشجعان من كلّ الفصائل، لكنّ القيادات وصلت إلى حالة من الشلل (هذا يسري على اليسار واليمين، والمقرّبون من وديع حدّاد يروون أنّه كان شديد الإحباط بسبب فشل الكثير من العمليّات للتنظيم. عمليّة قصْف طائرة العال في باريس فشلت مرّتَين لا مرّة واحدة).
أمّا في لبنان، وبعد هزيمة المقاومة في الأردن، اختلق عرفات نصراً آخر أضافه إلى سيرته الذاتية (ليس في سيرته عن أعماله في الكويت أو عن دوره العسكريّ ذرّة من الصحّة). أصبح طرْد المقاومة من الأردن نصراً لعرفات ولمنظّمة التحرير، فكلّ الفصائل فشلت في إعداد مراجعة نقديّة شاملة للمرحلة لاستخلاص العبر. «فتح» تلوم اليمين و«الجبهة الشعبيّة» تلوم «الديموقراطية» و«فتح» و«الديموقراطيّة» تلومان «الجبهة الشعبيّة».
هذه عِبرُ المرحلة عند الفصائل. قاتلت قوات المقاومة ببسالة في حرب أيار 1973 وكانت تشعر أنّ وجودها مهدّدٌ وبخاصّة أنّ الدولة اللبنانيّة لزّمت أمر القضاء على المقاومة إلى إسرائيل والموساد عبر عمليّات اغتيال متكرّرة. إنّ فشل الجيش اللّبناني الذريع في أيّار 1973 هو الذي أقنع المعسكر الغربي وإسرائيل بضرورة تسليح قوى اليمين الانعزالي اللّبناني. وكانت تلك القوى – على عكس الحركة الوطنية المؤمنة حتى النخاع بالنضال البرلماني كي يصل نقولا الشاوي وحبيب صادق إلى الندوة البرلمانيّة- مسلّحة تسليحاً جيّداً.
منظّمة التحرير لم تكن مستعدّة للحرب الأهليّة ولم تكن في وارد خَوضها. فقط قوى اليسار مثل «الجبهة الشعبيّة» كانت تؤمن بضرورة دعْم قوى اليسار في عمليّة الانتفاض على النظام اللّبناني الرجعي اليميني. لكن حتى «الشعبيّة» لم يكن لديها خطّة عسكريّة أو سياسيّة واضحة، وكانت (على مرّ سنوات الحرب) محكومة بالحفاظ على الواقع كما هو وبخاصّة أنّ عرفات حرص على إغداق الأموال على كلّ منظّمات المقاومة. أصبح الحفاظ على الواقع كما هو ومكاسبه لكلّ تنظيم مصلحة للجميع على حساب كسْر ميزان القوى في الحرب.
(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة