آخر الأخبار

تآكل النصر: حزب الله بعد وقف إطلاق النار

Original_156346

مرتضى سماوي

بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، كان هناك اختلاف داخل بيئة حزب الله على نتيجة الحرب. فبينما كان البعض يتحدّث عن «نصر» كان البعض يشكّك في هذا الوصف. ولعل أبرز سبب كان الضعف على المستوى الإعلامي في حزب الله حيث لم يستطع هذا الجانب أن يرقى إلى مستوى بطولات سطّرها مقاتلوه في الميدان، وكانت أكثر المشاهد البطولية تداولاً هي المشاهد التي عرضها الجيش الإسرائيلي لا المشاهد الصادرة عن حزب الله. عدا عن النجاح الباهر لحماس في المعركة الإعلامية، ما زاد من التوقّعات في جبهة لبنان.

خطاب حزب الله بعد الحرب تمحور حول تبيين حجم العدوان وحجم الضربة الكبيرة التي تلقاها الحزب، بالتالي بالفعل فإنّ الصمود بمواجهة العدوان البرّي الكبير، واستعادة السيطرة، وضربات في العمق الإسرائيلي، وتحصيل وقف إطلاق نار بشكله الذي تم الاتفاق عليه في 27 تشرين الثاني 2024، كان كل ذلك يعدّ انتصاراً للمقاومة.

ولكن، عندما ننظر إلى المشهد بعد مرور أكثر من عام على وقف إطلاق النار، نجده قد تغيّر كثيراً:
حصلت إسرائيل، بالتدريج، على مكاسب إضافية كثيرة، فارضة واقعاً جديداً باحتلال النقاط الخمس التي تحوّلت إلى سبع نقاط في ما بعد، وتوغّلت إلى العمق اللبناني أكثر مما كانت توغّلت خلال الحرب، ونسفت منازل ومباني كثيرة في القرى الحدودية، واستمرت بتوغلاتها في القرى، وفرضت حرّية الحركة الجوية وقصف جميع المناطق اللبنانية، حتى من دون استثناء الضاحية التي قصفت عدة مرات، سواء مع سابق إنذار وتهديد أو من دون إنذار، وتسبب في استشهاد عدد كبير من المدنيين وغير المدنيين.

اعتاد الحزب هذا المشهد بشكل تدريجي كما أرادت له إسرائيل؛ فبعد ردّ الفعل الأول الذي قام به حزب الله إزاء الخروقات الإسرائيلية في اليوم السادس بعد وقف إطلاق النار والبيان الذي تضمّن عبارة «وقد أعذر من أنذر»، لم يقم حزب الله بأي رد فعل عسكري أو سياسي وبقي هادئاً حتى اللحظة.

يقول بعض المقرّبين من حزب الله إن سبب القبول بهذا الواقع هو سقوط النظام في سوريا خلال تلك الفترة، وهذا أمر معقول نظراً إلى عدم وضوح الصورة وانقطاع خط الإمداد من إيران عبر سوريا ووجود بعض التهديدات من جانب الحدود السورية. ولكن، في الوقت نفسه، فإن خطاب حزب الله العلني يقلّل من أهمّية تأثير النظام السوري الجديد في استعادة حزب الله لقدراته وإعادة بنائها، فقد كان محور الحديث في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد السيد حسن نصرالله هو تعافي الحزب.

لم تقتصر التنازلات على الميدان، بل امتدّت إلى الساحة السياسية، فبعد أن قبل الحزب بالعماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية انتُخب نواف سلام رئيساً للوزراء خلافاً لإرادة الحزب. ومن ثم مُدّد وقف إطلاق النار الذي أتاح للعدو الإسرائيلي استباحة القرى الحدودية بشكل أكبر، وبعدها كانت «سقطة» الحكومة بقيادة نواف سلام في جلسة 5 آب وسحب الشرعية الحكومية عن المقاومة اللبنانية بإصدار قرار حصر السلاح بيد الدولة، تبعتها جلسة 5 أيلول في السياق نفسه، وفي الأخير تعيين حضور مدني لبناني في لجنة الميكانيزم.
في جميع هذه المحطات، كان خطاب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، موجّهاً إلى الحكومة مطالباً إيّاها بتحمّل مسؤولياتها وتصحيح أخطائها، ولكن لم يكن لهذه الدعوات أي تأثير على المسار التصاعدي للحكومة والعدو.

ولكن، يبقى السؤال: أين حزب الله من كل ما يحدث؟ هل واقعاً لم يعد هناك أوراق لدى المقاومة لكي تقف مكتوفة الأيدي أمام الواقع الجديد الذي يفرض؟ وهنا لا أقصد أوراقاً عسكرية، فهي أمور يجب أن تبقى سرّية والغموض فيها هو مفتاح النجاح ولكن من الناحية السياسية ألا يوجد لدى حزب الله أي أوراق ضغط على الحكومة التي تشارك فيها؟ ألا يستطيع الحزب وقف التعاون مع الجيش والحكومة جنوب نهر الليطاني أو حتى التهديد بهذه الورقة للضغط من أجل ألّا تلبّي الحكومة اللبنانية المطالب الإسرائيلية والأميركية؟ ألا يمكن تنظيم اعتصامات، تظاهرات أو إضرابات؟ إلى متى وإلى أي حد سيستمر حزب الله بتقديم تنازلات تضعف من إنجازاته خلال الحرب؟

الخطاب السياسي لحزب الله في الفترة الأخيرة ورهانه على الدولة هو خطاب جديد يتناقض مع مبدأ وجود المقاومة الذي هو غياب الدولة؛ أي إن فعل المقاومة وعملها في تحرير الأرض ودفع الاعتداء هو بسبب عدم قدرة الدولة على القيام بذلك. ما الذي تغيّر في الدولة من حيث مواجهة العدوان والعدو حتى تستحق الرهان بهذا الشكل؟

الاعتداءات والخروقات والأسرى والاحتلال موجودون، والدولة غائبة في المواجهة وحاضرة في كل ما يتعلّق بنزع سلاح المقاومة، بينما يقول الحزب إنه لا يريد إعطاء ذريعة لعدوّ لا يحتاج إلى ذرائع، وإذا احتاج فإنه يخلق ذريعة من العدم. إن كان التوقيت غير مناسب للمقاومة، فإن هذا الأمر ينطبق على العمل العسكري فقط، ولكن من ناحية سياسية فالاقتصار على التنديد لن يوقف تمادي الحكومة اللبنانية في تلبية المطالب الأميركية ولن يوقف شهية إسرائيل على انتزاع مكاسب أكبر كما فعلت في العام الأخير، بل يفتح شهيتها أكثر.

لم تقتصر الحكومة اللبنانية على تلبية المطالب الأميركية فحسب، بل إنها تغرق لبنان في قبضة أميركا في المجالات الاقتصادية، التعليمية، الاتصالات والتكنولوجيا، عبر عقود بين الوزارات المعنية وشركات أميركية متعاونة مع العدو كـ Oracle وStarlink. كما إن بعض التغييرات الأخرى السلبية بالنسبة إلى المقاومة، والتي حصلت في العام الأخير في لبنان، يستحيل أو من الصعب جدّاً تداركها في ما بعد كسقوط «تابو» السلام مع إسرائيل أو التفاوض المباشر معها.

إن كان السكوت السياسي للحزب بسبب عدم القدرة العسكرية، فخطاب الحزب يقول إنه تعافى. وإن كان السبب هو الخوف من عدوان جديد ورد فعل إسرائيلي وحتى أميركي قوي، فهذا السبب لن يزول بتاتاً في المستقبل ولن ينقص، فالعنجهية والتوحّش الإسرائيلي في حروبه كانا موجودين منذ البداية.

وإن كان السبب هو الحفاظ على وجود المقاومة، فما هو التهديد الوجودي؟ التهديد الوجودي لا يحدث بين ليلة وضحاها بل هو نتاج عمل مستمر قد يستغرق عقوداً، وهذا العمل يحدث بالفعل حالياً في لبنان، والجنوب خصوصاً، عندما تمنع إسرائيل أي شكل من أشكال إعادة الإعمار وتستهدف كل ما يتعلّق به من آليات أو بيوت جاهزة قد يمكّن بعض النازحين من العودة إلى قراهم أو ممارسة حياتهم الطبيعية، أو تحتل أراضي لبنانية وتبني جدراناً عازلة وتستهدف المواطنين، عدا عمّا تم ذكره أعلاه من إحكام القبضة الأميركية على الدولة اللبنانية.

الاستمرار بالشكل الحالي ستكون له عواقب وخيمة على حزب الله، وبالأخص منطق الخطاب المقاوم الذي بُني خلال 40 عاماً في بيئته التي صبرت وصمدت وقدّمت كثيراً وهي أكثر ثباتاً وجهوزية لأن تقدّم أكثر، إلا أن الشّكل الحالي من الاستنزاف والتحجيم والتناقض بين الخطاب على مدى العقود الماضية والخطاب الحالي هو أخطر عليها من أي حرب.

* كاتب تونسي

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة