أسعد أبو خليل
حزب الجمهور أم حزب النُّخبة؟
يميّزُ عالِم السياسة الفرنسي، موريس دوفيرجيه (في كتابه «الأحزاب السياسيّة» الصادر في 1951) بين نوعَين من الأحزاب السياسيّة، ولم يكن يومها يتحدّث عن أحزاب منطقتنا العربيّة. النوع الأول، هو حزب الجمهور أو حزب الجماهير وهو حزب يتوجّه إلى الجمهور العام، وغالباً من مختلف الطبقات. وهذا الحزب يعتمد على عضويّة رخوة وعلى الهلامية التنظيميّة وغياب -أو عدم ضرورة- الانضباط الحزبي.
في هذا الأحزاب، تنبتُ الأجنحة لأنّه ليس من امتحان في الولاء الحزبي. وليس هناك في هذا النوع من الأحزاب عضويّة رسميّة محدّدة ودفْع اشتراكات منتظمة من قبل الأعضاء. حزب الجماهير يريد التأثير على المجتمع وتعبئة الناس من تحت والفوز بالانتخابات. ومثال هذه الصنف هو الأحزاب الغربيّة السائدة: يكون هناك حزبان يتنافسان على الجمهور نفسه، أو يضمنان قِسماً من الجمهور، ثم يتنافسان في المرحلة الأخيرة من الانتخابات على الوسطيّين الذين يمكن أن يؤيّدوا الحزب اللّيبرالي أو الحزب المحافظ بحسب القضيّة أو المرشحين أو الظرف الراهن.
أمّا النوع الثاني من الأحزاب، فهو حزب الكادر (أو حزب الكوادر) الذي يركّزُ على العضويّة الصلبة والصارمة وعلى العقيدة المتزمّتة والمُحدّدة (مثل الأحزاب الشيوعيّة والأحزاب الدينيّة). والتنظيم هنا ملتزم وصارم ويعتمد على السرّية في كثير من الأحيان (بحسب المجتمعات) أو على الانفصال عن الواقع الانتخابي؛ لأنّ الفوز ليس هدفه. التمويل هو من الأعضاء أنفسهم وليس من قلّة من الأثرياء كما في حالة حزب الجمهور (مثل الحزبَين هنا في أميركا).
لكن، نظريّاً، فإنّ حزب الجمهور مفروض أن يُموَّل من قِبل جمهور كبير من المؤيّدين، ما يجعله حرّاً من الارتهان لمصالح ماليّة، ولكنْ في الواقع، إنّ المجتمعات الرأسمالية تطورت بصورة باتت فيها الأحزاب السائدة تعتمد على عدد صغير من الأثرياء الكبار أو الشركات الكبرى لأنّ نفقات الانتخابات تزداد حجماً (بالمليارات في أميركا). الهدف المركزي لحزب الجمهور هو الفوز بالانتخابات، بينما الهدف لحزب الكادر هو كسْب الأعضاء، والمزيد من الأعضاء للتأثير على المجتمع برمّته من تحت.
الأحزاب الشيوعيّة واليساريّة الغربيّة مثال لأحزاب الكادر، أو أحزاب العقيدة. لأنّ هذا النوع من الأحزاب لا يكترث لكسْب الأصوات في الانتخابات بقدر ما يحرص على بناء تنظيم فعّال يمكن أن يؤثّر في الطبقة العاملة (أو هكذا كان التفكير تقليديّاً بعد الحرب العالميّة الثانيّة). والعضو يدفع اشتراكه ثمناً للعضوية كي يشعر أنّه مؤثّر وأنّ التنظيم غيرُ مرتهن للأثرياء أو لجهات ماليّة نافذة.
الأحزاب الجماهيريّة لا تكترث لبناء التنظيم. ليس هناك عضويّة (بمعنى حمْل بطاقات عضويّة في الحزب الجمهوري أو الديموقراطي) لأنّ الهدف هو كسْب الانتخابات. والمؤيّد (ليس من عضو) لا يشعر أنّه معني ببناء التنظيم بل يترك ذلك للنخبة المسيطرة والمُمَوِّلة. وهذا النوع من الأحزاب ليس له من عقيدة باستثناء الانضواء في خطٍّ عام يكون يساريّاً أو يمينيّاً بالمعنى العام. ويمكن أن يتغيَّر ذات اليمين وذات اليسار بناء على المصلحة الانتخابيّة. توني بلير وبيل كلنتون دفعا بحزب العمّال والديموقراطي (على التوالي) نحو اليمين وذلك لضمان الفوز بالانتخابات.
وليس لحزب الجمهور عقيدة محدّدة أو تثقيف حزبي. الأمر متروك بالكامل للمؤيّدين والمؤيّدات. في أحزاب الكادر، هناك طقوس وأنماط من التثقيف الحزبي المدروس وهناك مكتبة حزبيّة يتوجّب على العضو أن يمرّ فيها ويُمتحَن على مضمونها غالباً. الأحزاب الشيوعية في لبنان مثال على ذلك وإن كانت هذه الأحزاب تفتقر إلى مكتبة عقائدية خاصّة بمنطقتنا. منشورات «دار التقدّم» (بترجماتها السيّئة) كانت المنهج المُقرّر.
لكنْ يمكن للحزب الكادري أن يتحوّل إلى حزب جمهور أو العكس. حزب الخضر في ألمانيا كان حزباً نخبويّاً صغيراً (كادريّاً) يعتمد على العضوية الصارمة والعقيدة الجامدة. لكنّه بعد أن فاز في الانتخابات النيابية للمرّة الأولى في 1979 أصبح يتحوّل باضطراد إلى حزب النخبة، ما دفعه نحو اليمين. أصبح الهمّ، كما الحال في أحزاب الصنف هذا، الفوز بالانتخابات على حساب العقيدة. والحزب الشيوعي الفرنسي كان جماهيريّاً وله تمثيل في البرلمان، لكن بُنيته، بعد أن تعرّض لخسارة كبيرة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تغيّرت وأصبح أكثر عقائديّة لأنّه لا يربح الانتخابات ولا حظّ له في الوصول إلى السلطة. عندها يسهل التمسّك بالعقيدة. أصبح الحزب كادريّاً بسبب سقوطه الذريع.
الحزب يجمع في داخله صفات من حزب الكادر وصفات من حزب الجمهور. وبقدر ما تحوّل الحزب إلى حزب الجمهور (أي الحزب الذي يحرص على الفوز بالانتخابات)، فإنّه خسر من سرّيته في العمل، والتي كانت أكبر ضمانة له ضدّ اختراقات العدوّ الإسرائيلي في البدايات
لا يمكن بسهولة تصنيف حزب الله عبر تاريخه في هذا النوع من الأحزاب. الحزب ليس كما الأحزاب الغربيّة لأنّ له صفات خاصّة به، وخاصّة بالسياق اللّبناني الذي عمل فيه. الحزب يجمع في داخله صفات من حزب الكادر وصفات من حزب الجمهور. وبقدر ما تحوّل الحزب إلى حزب الجمهور (أي الحزب الذي يحرص على الفوز بالانتخابات)، فإنّه خسر من سرّيته في العمل، والتي كانت أكبر ضمانة له ضدّ اختراقات العدوّ الإسرائيلي في البدايات.
كان مفاجئاً أن يعمد نعيم قاسم في آخر خطبة له إلى الحديث عن الانتخابات البلدية ودعوة الناس إلى المشاركة الكثيفة فيها، في الوقت الذي لا يزال الجنوب يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي وفي الوقت الذي تقوم فيه إسرائيل باغتيال من تشاء من عناصر الحزب وقادته في أيّ مكان من لبنان. كما إنّ فكرة إجراء الانتخابات في ظلّ الاحتلال تُضفي نوعاً من الشرعيّة (غير المقصودة، طبعاً) على الاحتلال الإسرائيلي والقبول بما يترتّب عليه.
هناك مئات الآلاف من الجنوبيّين الذين لا يستطيعون العودة إلى قراهم ومدنهم. تستطيع إسرائيل أن تؤثّر على المسار لأنّه ليس للحزب القدرة على التعبئة والتنظيم في الجنوب كما لدى جماعات تحظى بالتمويل الغربي أو الخليجي (الشيء نفسه يسري على الانتخابات النيابيّة الأخيرة في المغتربات حيثُ قبِلَ الحزب بصوابيّتها فيما إنّ عدداً من الدول الغربية تمنع أيّ تحرّك سياسي من قبل الحزب وتزجّ بالذي يقوم بها في السجون. كيف تتكافأ الفرص بين الأحزاب المتنافسة إذا كان بعضها ممنوعاً من التحرّك والعمل؟).
عندما خاض الحزب أوّل انتخابات له في عام 1992، كان يعلن انتقال قسم منه (القسم السياسي غير الجهادي) إلى صنف أحزاب الجمهور التي تسعى إلى الفوز بالانتخابات. وهذا النوع من الأحزاب، كما سلف، لا يحرص على التمسّك بالعقيدة. لكنّ الحزب فريد من نوعه ولا قدرة له على تغيير العقيدة أو التراخي في التمسّك بها. حاول الحزب أن يحافظ على الازدواجية (في فصل القِسم الجهادي عن القسم السياسي، وهذا الفصل رفضَته الدول الغربيّة باستثناء فرنسا والاتحاد الأوروبي اللذين يحافظان على علاقة مع الحزب).
ولا نعلم مدى انبعاث قرار الحزب بالمشاركة السياسية في الانتخابات في 1992 هل هي من الحزب نفسه أم من ضغوطات خارجيّة تتعلّق بمصالح الدولتَين اللّتَين أثّرتا في الحزب، أي النظام السوري بدرجة أُولى والنظام الإيراني بدرجة ثانية).
ومن المعروف أنّ قيادة الحزب وأعضاءه خاضوا نقاشات مستفيضة حول المشاركة في الانتخابات لأنّ الحزب كان لسنوات (منذ التأسيس) يرى أنّ النظام السياسي اللّبناني هو نظام طائفي فاسد وعقيم فيما إنّ الذين أيّدوا قرار المشاركة رأوا أنّ الانتخابات هي فرصة لتعريف الناس بالحزب ولكسْبه ثمار الفوز حتى لا يقتصر التمثيل السياسي النيابي على حركة «أمل» فقط، وكان ذلك في حقبة الصراع والتنافس بين الحركة والحزب. ولو قارنّا وفاضلنا بين النسقَين من الأحزاب، ما فائدة النسقَين وضررهما في تجربة حزب مقاومة؟
في حالة حزب الجمهور: فضائل حزب الجمهور أنّه يفيد في الفوز في الانتخابات ويوسّع من قاعدة الحزب حتى يستطيع أن يحصل على قِسم إضافي من المؤيّدين في فئة الأصدقاء والقريبين من الحزب. وحزب الجمهور يخرج من نطاق الأعضاء الرسميّين لأنّ جسم الأعضاء وحده لا يسمح بالفوز في الانتخابات. لكنّ الخروج من نطاق العضويّة يعرّض الحزب لأخطار جمّة لأنّه يمزج بين القِسم الجهادي السرّي وبين القِسم السياسي الظاهر.
وهذا يُسهِّل عمليّة مراقبة الحزب واختراقه من قِبل إسرائيل. إنّ عمليّة رصد بن لادن (الذي برع في الاختباء من مطاردة أميركا وتوقّف عن استعمال أيّ هاتف والإنترنت منذ عام 1998) لم تستطع الحصول على دليل أو وجود رقمي له فاكتفت بمراقبة الساعي الذي كان ينقل الرسائل بين أقسام قيادة «القاعدة». لا تستطيع أن تفتح نفسك أمام الجماهير وتحافظ على السرّية التي يقتضيها العمل المقاوم.
وهذا التحدّي فرض نفسه على كلّ حركات المقاومة العربيّة لأنّ الانفلاش التنظيمي يزيد عدد الأعضاء بصورة كبيرة خصوصاً أنّ المنافسة (الانتخابية أو النضاليّة) فرضت نفسها في حالة منظمة التحرير. لم يكن هناك انتخابات عامّة تجري في منظمة التحرير إلّا التنافس داخل المنظمة ومن قِبل أعضاء معيّنين كان على أشدّه. وكلّما زاد التمثيل زادت حصّة التمويل من قيادة المنظمة.
وفي حالة منظمة التحرير، يروي هاني الحسن لهيلينا كوبان في كتابها المرجعي عن منظّمة التحرير أنّ تنظيم «فتح» تغيّر جذريّاً بعد معركة «الكرامة» (التي سرقَ ياسر عرفات كلّ الفضل فيها لنفسه ولتنظيمه متناسياً دَور الجيش الأردني وتنظيمات فلسطينيّة أخرى) ودخلَت إليه الآلاف. قبل «الكرامة»، كانت الحركة تنتقي وتفحص الأعضاء، وكان على العضو المرشّح أن يحظى بتزكية من أعضاء آخرين معروفين.
كلّ هذا تغيّر. أصبحت منافسة العدد تحثّ التنظيمات على إهمال عنصر الاختيار والفرز الدقيق، والذي كان سائداً من قبل. ومِن المُجحف، الحديث عن «فتح» فقط في هذا الإطار لأنّ التوسّع الجماهيري (أو الانتقال من حزب الكادر السرّي إلى الحزب الجماهيري المُنفلش) أصاب كلّ فصائل منظمة التحرير خصوصاً في مرحلة لبنان والانفلاشيّة المعروفة. وهذا المرض يأتي دائماً على حساب السرّية في العمل.
إنّ اغتيال القادة في نيسان 1973 لا يدلّ فقط على تقصير وتواطؤ مفضوح من قِبل بعض أجهزة الأمن والجيش في لبنان، بل هو يدلّ على إهمال أمني فلسطيني فظيع لأنّهم كانوا يقطنون في أماكن معروفة وفي شارع فخم يندُر وجود مؤيّدين للثورة فيه. هل القدريّة هي المسؤولة عن إهمال أبسط الشروط الأمنيّة في الحفاظ على القادة خصوصاً أنّ بعضهم (كمال عدوان مثلاً) كان يمسك بملفّ العمليّات في الداخل الفلسطيني؟
والانفلاش الجماهيري يفيد في دعْم الاتّصال بين الحزب أو التنظيم والجماهير. التنظيم السرّي يبتعد عن الجماهير وإن كان الابتعاد يحمي التنظيم. من يصدّق أنّ حركة «فتح» في بداياتها كانت مثالاً للعمل السرّي. كان هناك صندوق بريدي مذكور في أعداد «فلسطيننا» (وهي النشرة المركزية الأولى للحركة) وكان يتلقّى طلبات العضويّة. طبعاً، العملية هذه لم تكن مضمونة أمنيّاً البتّة.
(يتبع)
* كاتب عربي