آخر الأخبار

اللاجئ والسلاح والدولة: تفكيك سردية الفلسطيني العالق في لبنان

reuters_682e0034-1747845172

عز الدين ابراهيم

لم يكن المخيم الفلسطيني في لبنان محطة عابرة ولا إقامة مؤقّتة، بل تحوّل عبر عقود من التهجير والتهميش إلى نقطة تقاطع للزمن المكسور والهوية الجريحة، وصار مع الوقت فضاء كثيفاً بالألم والاحتمال، مختزلاً سردية لاجئ يأبى النسيان ولا يُعطى فرصة للعودة. فمنذ أن لجأ الفلسطيني من فلسطين إلى لبنان، وهو محكوم بمنطق الاستثناء، وموزّع بين تصنيفات متعارضة: فهو لاجئ في القانون اللبناني، وضيف في خطاب الدولة، وثائر في خطاب الفصائل، وعبء في نظر بعض الطوائف، ومشروع فتنة في حسابات الأجهزة. وفي قلب هذا التداخل، ظل المخيم لا يشبه إلا ذاته، مكاناً للنجاة المؤقتة، ثم للذاكرة المحاصرة، ثم للموت المؤجّل.

حين خسر الفلسطيني أرضه عام 1948، لم يحمل مفتاحاً فحسب، بل حمل ذاكرة طردت النوم عن أجيال لاحقة. لم تكن الخيمة مجرد قماش، بل كانت خريطة معطّلة ومجتمعاً مهدداً، وشاهداً على زمن عربي مشلول، لم يستطع أن يمحوَ نكبته، ولم يعرف كيف يحتوي نتائجها. المخيم في لبنان لم يكن مجرد مكان للسكن، بل بؤرة اشتباك دائم، ليس فقط بين الفلسطيني والدولة اللبنانية، بل بين الفلسطيني وذاته، بين الهوية الوطنية المحاصرة والهوية السياسية المأزومة، بين الرغبة في العودة وواقع التوطين المفروض قسراً.

مع توقيع اتفاق القاهرة في عام 1969، مُنحت منظمة التحرير حق إدارة المخيمات أمنياً واجتماعياً، وممارسة الكفاح المسلح ضد إسرائيل من جنوب لبنان. لكنه لم يكن اعترافاً نابعاً من رؤية استراتيجية، بل كان تسوية اضطرارية لمحاولة احتواء واقع متفجّر. الدولة اللبنانية، الممزقة حينها بالتوازنات الطائفية والمناطقية، لم تستطع أن تُنتج تصوّراً جامعاً للتعامل مع المخيم، فتركت الأمر في هامش التجربة، حتى انفجر الواقع في الحرب الأهلية، وارتسمت خطوط التماس ليس بين الفلسطيني والإسرائيلي فحسب، بل بين الفلسطيني ومكوّنات لبنانية أخرى. المجازر التي تتابعت، من تل الزعتر إلى صبرا وشاتيلا، إلى حرب المخيمات، كانت محطات دامية لتفكّك كل أشكال الحماية، ولانكشاف الفلسطيني في لحظة لم يكن له فيها لا دولة ولا درع ولا حليف ثابت.

إلغاء اتفاق القاهرة عام 1987 لم يُؤسّس لوضع جديد، بل عمّق الفراغ القانوني والسياسي الذي سكنه الفلسطيني منذ النكبة. ثم جاء اتفاق الطائف ليعيد إنتاج الدولة بتوازنات جديدة، من دون أن يطرح تصوراً لحل قضية اللاجئين. كانت منظمة التحرير قد سلّمت السلاح الثقيل، لكنّ المخيم ظل تحت الحصار، لا بمنطق المواجهة، بل بمنطق الاحتواء والاشتباه. لم تَدخل الدولة المخيم باعتبارها ضامنة، ولا أُسند الأمر رسمياً إلى المنظمة باعتبارها راعية، فظلّ الفلسطيني بلا حقوق، وبلا تمثيل، وبلا أفق. صار المخيم حقلاً رمادياً، تتنازعه الأجهزة الأمنية، والمصالح السياسية، وأحلام العودة، وقلق التوطين.

ما بعد الطائف لم يكن أكثر رحمة، إذ لم تُطرح أي مقاربة لبنانية لمعالجة الملف الفلسطيني، بل جرى النظر إليه كملف أمني، يجب ضبطه ومراقبته واحتواؤه. المخيم لم يكن حياً عشوائياً، بل متّهماً دائماً. الدخول إليه مشروط، والبناء فيه ممنوع، والتجوّل داخله مراقَب، حتى الترميم صار يُعامل كفعل تهديد. في ظل هذا الواقع، نشأت أجيال فلسطينية لا تعرف عن لبنان سوى القيد الأمني، ولا عن السياسة سوى أن الوجود في لبنان «حالة مؤقتة دائمة».

ثم جاء اتفاق أوسلو ليزيد الأمر تعقيداً. المنظمة التي فاوضت باسم كل الفلسطينيين، فقدت صدقيتها في المخيمات. أصبح الانقسام سيد الموقف، وتفكّكت المرجعية، وانقسمت الفصائل بين مؤيّد ورافض للتسوية، وبين من يحاول مسك العصا من المنتصف دون برنامج واضح. منظمة التحرير، وبدل أن تكون مظلة جامعة، تحوّلت إلى سفارة، ثم إلى غرفة تنسيق مع الدولة اللبنانية، تدير الواقع وتتكيّف معه، بما يخدم أولويات «رام الله» لا اللاجئين. أمّا فصائل التحالف، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد، فظلت أسيرة خطاب مقاومة العالي النبرة، لكنه غير مترجم سياسياً أو متجسّد في مشروع عملي في لبنان. فصار اللاجئ رهينة هذه الانقسامات، ويعيش على هامش التمثيل، ويُصدّر باسمه مواقف لا يشارك في صياغتها.

كل هذا التشتت جعل من المخيمات ساحة مفتوحة للفراغ، وأصبح اللاجئ بلا غطاء، متروكاً للتهميش والانقسام، ولإعلام موجّه يتقاذفه بالشيطنة والتشويه. السلطة اللبنانية بدورها تعاملت مع الانقسام كفرصة للمناورة، فعقدت حوارات أمنية مع كل طرف على حدة، وأدارت الوجود الفلسطيني كأزمة مؤجّلة، لا كقضية قابلة للحل. أمّا الأجهزة، فحوّلت المخيم إلى بنك معلومات تُصاغ منه وحوله التقارير، ويُبنى على أساسه خطاب الاشتباه.

في نهر البارد عام 2007، انفجرت القنبلة. تنظيم «فتح الإسلام» الوافد الغريب عن البيئة الفلسطينية، وجد طريقه إلى المخيم في ظروف مشبوهة. ورغم أن التنظيم لا يمثل المخيم، بل غزاه، فإن الدولة تعاملت مع المخيم باعتباره المتهم، فتم تدميره وتشريد أهله لسنوات. ومنذ ذلك الحين، صار نهر البارد نموذجاً يُلوَّح به، فكلما عُرض موضوع ضبط السلاح، عادت الرواية الرسمية إلى تلك اللحظة، رغم أنها لم تجب يوماً عن الأسئلة الجوهرية: كيف دخل تنظيم «فتح الإسلام» إلى المخيم؟ من سمح له؟ ولماذا فُجِّر المخيم بكل هذه الوحشية؟ ولماذا لم تنتهِ إعادة إعماره حتى اليوم؟

ليست الفوضى في المخيم صدفة. المخدّرات ليست عارضاً اجتماعياً، إنما استهداف عابر للحدود، وسياسة ممنهجة تُمرَّر وتُوزّع بصمت، وتستهدف شريحة عمرية محددة. كذلك المطلوبون، الذين يتحولون إلى أدوات تبرير للحصار، بعضهم متهمون فعلياً، وكثير منهم ضحايا جيش من المخبرين الانتهازيين، ونظام لا يمنحهم الحق في الدفاع عن أنفسهم، أو يوفّر لهم فرص عمل تضمن لهم حياة كريمة. البطالة تدفع البعض إلى الارتهان، والبعض الآخر يتقاضى رواتب رمزية مقابل الولاء لهذا الفصيل أو ذاك، بينما الغالبية تُترك فريسة الإحباط.

هنا يكمن الخطر الحقيقي، حين تتحوّل السلطة الفلسطينية – التي تعاني أصلاً من مأزق شرعية داخلية – إلى واجهة تنفيذية لمطلب خارجي يرفع الغطاء عن اللاجئين

«الطوفان» وما قبله لم يكن كما بعده. فحين قرّر حزب الله فتح جبهة الجنوب دعماً لغزة في وجه حرب الإبادة، لم يكن الفلسطينيون في لبنان غائبين عن المشهد. شارك بعض فصائلهم بدعم رمزي، كأقل ما يمكن. دفعت حركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية بعدد من شبانها نحو المعركة، وأطلقت حماس صليات من الجنوب، وكل ذلك جرى بتنسيق مباشر وتحت مظلة الحزب، لا خارجها. لكنّ الرد الإسرائيلي جاء عاصفاً، استهدف بنية حزب الله، واغتال أبرز قادته، وضرب مراكزه، وهجّر ودمّر قرى الجنوب، ومعه بدأ التوتر في الداخل اللبناني على إيقاع إقليمي، يحاول الاستثمار في الفرصة. ولأن الدولة ترى في ملف سلاح حزب الله معضلة عصية على الحل بأبعادها وتعقيداتها، توجّهت الأنظار نحو الحلقة الأضعف: السلاح الفلسطيني.

هنا تتقاطع الوقائع مع السياسة. فزيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى بيروت، كما أفادت تقارير إعلامية، لا تبدو بروتوكولية فحسب، بل حاملة لطلب إقليمي-دولي واضح: وهو نزع السلاح الفلسطيني من المخيمات، ولو بالقوة، كجزء من مقايضة أوسع تمتد من غزة إلى لبنان إلى طهران. وقد بدأ الخطاب الإعلامي الممهِّد لذلك يتسلل عبر منصات إعلامية رئيسية، يشيطن الوجود الفلسطيني في لبنان، ويدفع باتجاه توتير البيئة السياسية الفلسطينية فيه، ويصوّر بعض الفصائل -ولا سيما تلك الخارجة عن إطار منظمة التحرير- كأذرع لمشاريع خارجية، تعكّر صفو الأمن اللبناني، وتسيء إلى القضية، وتثير الفوضى داخل المخيمات. وربما لن يطول الوقت قبل أن تُوصم هذه الفصائل بـ«المنفلتة» أو حتى بـ«الإرهاب».

هنا يكمن الخطر الحقيقي، حين تتحوّل السلطة الفلسطينية -التي تعاني أصلاً من مأزق شرعية داخلي- إلى واجهة تنفيذية لمطلب خارجي يرفع الغطاء عن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ويفرض نزع السلاح، فهذا يعني إعادة تعريف المخيم، لا بصفته ورمزيته كشاهد على النكبة، بل بصفته مسألة إدارية تنظيمية، ويصبح فيها هؤلاء اللاجئون رعايا للسلطة، لا أصحاب قضية عادلة وحق معترف به، وهو ما يهدد بإفراغ الوجود الفلسطيني في لبنان من أبعاده السياسية والقانونية والإنسانية لبنانياً ودولياً.

بل إن توتير الواقع الفلسطيني-الفلسطيني، والفلسطيني- اللبناني، قد ينطوي على مخاطر أمنية، خصوصاً في مخيم عين الحلوة بحكم طبيعة القوى التي تتمركز فيه وتنوعها وتعدد ولاءاتها، وبسبب التربص الذي يحيط بواقع المخيم من جهات أمنية وإقليمية ودولية، فالمخيم الأكبر والأكثر رمزية، والذي مثّل طيلة عقود عاصمة السياسة الفلسطينية في الشتات، وملتقى الفصائل والتاريخ والنضال، صار مهدداً بأن يتحوّل إلى ساحة تفكيك جديدة، ومدخل لتصفية الوجود الفلسطيني في لبنان. والخطر لا يكمن فقط في السلاح، بل في الرسالة: إذا سقط عين الحلوة، سقط معه آخر خطوط المعنى الفلسطيني في لبنان.

لكن كي لا نقع في فخ التهويل المصنوع حول «سلاح المخيمات»، ينبغي التذكير بأن ما تبقّى من هذا السلاح ليس أكثر من بقايا مهترئة من زمن الحرب. فصائل منظمة التحرير وبعض الفصائل الأخرى تحتفظ بأسلحة خفيفة لم تُفعَّل منذ عقود، وتشبه إلى حد كبير أسلحة الأحزاب والعشائر المنتشرة في مختلف المناطق اللبنانية، و«حماس» -في حال امتلاكها سلاحاً- فإن وجوده رمزي، وخاضع بالكامل لمعادلة حزب الله، ومتوافق مع ما يقرره اللبنانيون بشأن الجنوب. أما «الجهاد الإسلامي»، فلا تملك هذه الحركة سلاحاً أصلاً، وقد شاركت في معركة الإسناد بالرجال لا بالعتاد، وبالتنسيق مع الحزب.

الفوضى الحقيقية لا تسكن الفصائل، بل تخرج من الشروخ: من الشباب المحبط، من شبكات المخدّرات، من الفراغ الذي تركته الدولة والفصائل معاً. فالسلاح في المخيم ليس مجرد قطعة حديد، بل وثيقة سياسية. نعم تنظيمه ممكن، بل ضروري، لكن بشرط أن يُعاد تعريف العلاقة بين الدولة واللاجئ على قاعدة الكرامة، لا الشك. هناك مبادرات جرى طرحها سابقاً: لجان أمنية مشتركة، شرطة مجتمعية، تسويات للمطلوبين، تسهيل إدخال مواد البناء، ربط السلاح بضوابط سياسية، معالجة ملف الحقوق المدنية. لكنها اصطدمت دائماً بجدار انعدام الثقة، والانقسام الفلسطيني وباستخدام الورقة الفلسطينية كورقة ضغط داخلي أو إقليمي.

الخطاب الإعلامي الذي يصوّر المخيمات كمستودعات سلاح جاهزة للانفجار، لا يهدف إلى السيطرة على الوضع الأمني، بل إلى نزع البُعد السياسي عن المخيم، وتجريده من رمزية «العودة». والدولة اللبنانية، إذا أرادت حماية نفسها، فعليها أن تبدأ من الجذر: من الحقوق، من الكرامة، من العدالة، لا من قمع الحلقة الأضعف. أمّا الفصائل الفلسطينية، فمسؤوليتها هنا مضاعفة. لا يكفي أن ترفع شعار «المقاومة» أو حصرية التمثيل، بينما تُفرّط باللاجئ، وتغرق في الحسابات الصغيرة، وتخوض معارك داخلية على شرعية متآكلة. لا يكفي أن تُحافظ على السلاح، بينما تُهمل الجيل الجديد، وتتركه فريسة المخدّرات والبطالة والاغتراب.

إن معالجة ملف السلاح، والحقوق، بل والوجود الفلسطيني بأكمله، لا يمكن أن تتم من دون مرجعية موحّدة للفلسطينيين في لبنان. فإدارة الحوار مع الدولة اللبنانية بشأن أكثر الملفات تعقيداً، لا يمكن أن تنسجم مع حال الانقسام والتشظي وانعدام الرؤية التي تغرق فيها الطبقة السياسية الفلسطينية في لبنان، ولا مع ارتهان البعض لقوى خارجية لا تعبأ بمصير اللاجئ. فالوعي اليوم ضرورة لا ترف، إذ تمضي إسرائيل، على وقع الإبادة الجارية في غزة، نحو حسم كل ملفات الصراع دفعة واحدة. وفي قلب هذه اللحظة، يصبح موقف الفلسطينيين في لبنان حاسماً: هل يصمدون كساحة مقاومة أم يُختزلون في مخيم مجرّد من المعنى؟

عام 2018، تأسّست هيئة العمل الفلسطيني المشترك في لبنان، برعاية قوى لبنانية، وعلى رأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري، وضمّت فصائل منظمة التحرير وقوى التحالف على حد سواء. مثّلت الهيئة بداية لتجربة مرجعية فلسطينية موحّدة، تدير الحوار مع لجنة الحوار اللبناني-الفلسطيني. لكنها تعرّضت لاحقاً لمحاولات تهميش، وإقصاء بدا أنه مقصود، وربما مدفوع بقرار مركزي من رام الله. مع ذلك، قد تكون هذه الهيئة إطار الحد الأدنى الذي يمكن البناء عليه لتكوين تمثيل موثوق للاجئين، يعبّر عن وحدة الهوية والمصير، إن توفّرت الإرادة السياسية. أما إذا تم تجاهلها أو تفجيرها، فإن المخيمات ستبقى عرضة لاشتباك داخلي يُحوِّل البندقية من رمز للعودة إلى عبء يهدد بما هو أخطر: ضياع الوجود نفسه.

السلاح الفلسطيني في لبنان ليس مشروع حرب، بل مشروع ذاكرة. بندقية اللاجئ ليست تفصيلاً تقنياً، بل صدى لعقود من النكبة والتهميش والخذلان. ومن يطالب بنزعها دون ضمانة، إنما يطلب من الفلسطيني أن ينزع عن نفسه ما تبقّى من المعنى. فالسؤال الحقيقي ليس عن «نزع السلاح»، بل عن حماية الحقوق وصيانة الكرامة. والمخيم، إذا فُجّر، لن يُخرِج فقط أصواتاً غاضبة، بل سيُسقِط الصفحة الأخيرة من كتاب العودة، ويفتح صفحة جديدة اسمها: التوطين أو التهجير.

البندقية ليست قدَراً، لكنّ الكرامة كذلك. وما لم يُطرح البديل العادل، فإن نزع السلاح سيكون الخطوة الأولى نحو نزع المعنى. وكما كتب درويش: «ما تبقّى لكم… هو هذا المخيم، فلا تتركوه يُنسى كما نُسيت قراكم». وهذا ما يقاتل اللاجئ من أجله: لا كي يحمل بندقية، بل كي لا يُنسى.

* كاتب فلسطيني

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة