كتب رمزي عوض*
خلال زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى بيروت في 21 أيار 2025، عاد ملف سلاح المخيمات الفلسطينية إلى الواجهة، وسط تطلعات لبنانية وفلسطينية مشتركة لضبط هذا الملف الشائك ضمن إطار الحوار والتفاهم، فقد أعاد الرئيس عباس خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت التأكيد على استعداد منظمة التحرير الفلسطينية للتعاون مع الدولة اللبنانية في تنظيم السلاح داخل المخيمات، مشددًا على أهمية الحوار والتنسيق المشترك لتحقيق هذا الهدف.
أسباب بقاء المخيمات الفلسطينية خارج سلطة الدولة:
منذ الحرب الأهلية اللبنانية، ظل السلاح الفلسطيني داخل المخيمات موضوعًا حساسًا، ورغم اتفاق الطائف عام 1989 الذي نصّ على حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، بقيت المخيمات إلى حد بعيد خارج السيطرة المباشرة للدولة، مع وجود أسلحة فردية ومتوسطة بيد الفصائل المختلفة، بما فيها حركة فتح، حماس، الجهاد الإسلامي، وغيرها من الفصائل المسلحة الأخرى، وذلك بسبب تعقيدات كثيرة، منها:
1. اتفاق القاهرة: الذي أُبرم بين منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بياسر عرفات والجيش اللبناني ممثلًا بالعماد إميل بستاني، بوساطة من الحكومة المصرية، في 3 نوفمبر 1969، بهدف تنظيم الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، ومن ثم إلغاؤه من طرف الدولة اللبنانية عام 1987 أثناء رئاسة أمين الجميّل، مع عدم قبول الفلسطينيين بإلغاء الاتفاق، مما سبب حالة من الفراغ القانوني لوجود السلاح الفلسطيني في لبنان.
2. مجزرة صبرا وشاتيلا: عام 1982 التي ما زالت حاضرة في ذاكرة اللاجئين الفلسطينيين، والتي حدثت عقب خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، حيث تعرّض مخيم شاتيلا وتجمع صبرا لإبادة جماعية رغم خلوهما من السلاح، والتي بقيت ذكراها علما للحفاظ على السلاح الفلسطيني في لبنان خشية تكرار مجازر مشابهة.
3. التعقيدات السياسية اللبنانية: التي تُقسِّم المجتمع اللبناني عموديًا بسبب المحاصصة الطائفية، والانتماء للطائفة لا للدولة، وهناك اتهامات اعلامية وسياسية لتدخل أطراف لبنانية مع فصائل فلسطينية للاستقواء بها على الداخل اللبناني، مما أضعف قدرة الدولة اللبنانية في تنظيم سلاح المخيمات.
4. ظهور جماعات مسلحة مستقلة: مثل عصبة الأنصار، والحركة الإسلامية المجاهدة، والشباب المسلم، وفتح الإسلام التي أنهى الجيش اللبناني وجودها في مخيم نهر البارد، وغيرها من المجموعات المسلحة التي تمتلك أفرادًا مقاتلين على درجة عالية من التدريب نتيجة قتالهم في أفغانستان والعراق ومؤخرًا في سوريا، ويستطيعون خوض معارك استنزاف طويلة، كما ظهر في اشتباكاتهم المتكررة مع حركة فتح خاصة في مخيم عين الحلوة، ولازالت حرب الجيش اللبناني على فتح الاسلام في مخيم نهر البارد حاضرة في الاذهان، والتي كانت من أعنف المواجهات بين الجيش اللبناني وكتلة مسلحة في لبنان منذ الحرب الأهلية.
5. عدم وجود قرار فلسطيني مشترك أو قيادة موحدة: بسبب تعدد الفصائل المسلحة واختلاف مشاربها وأيديولوجياتها، وتباينها مع قرار منظمة التحرير الفلسطينية، لم يجعل وجود قرار فلسطيني موحد أمر ممكن، حتى داخل المنظمة ذاتها، إضافة إلى بروز بعض القيادات المحلية في فتح وفرض نفسها كأمر واقع، مما أثّر أحيانًا على قرار ووحدة الحركة، والقرار الفلسطيني الموحد في العديد من الأوقات المفصلية على مستوى المخيمات.
6. التدخلات الإقليمية في الوضع السياسي اللبناني: عقب الحرب الأهلية، واستمرار وجود القوات السورية حتى خروجها عام 2005، إلى جانب الحروب الإسرائيلية المتكررة على لبنان، التي كانت وما زالت أمام تخوف الفلسطينيين من اجتياح إسرائيلي أو استهداف عسكري للمخيمات، كما حصل في اجتياح 1982، وكما يحصل الان في غزة.
7. عدم حصول اللاجئ الفلسطيني على حقوقه المدنية: على رأس تلك الحقوق هي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، كحق العمل وحق التملك، فبقاء المخيمات خارج سلطة الدولة سمح للطبيب والصيدلي والمهندس وغيرهم من أصحاب المهن الممنوعة من العمل بممارسة مهنتهم داخل المخيم، كما سمح بالبناء والتملك دون الحاجة إلى رخصة، وبالتالي، أصبحت المخيمات ملاذًا لممارسة حقوق لا يمكن ممارستها خارجها، ناهيك عن وجود كثير من الفلسطينيين فاقدي الشخصية القانونية أو الأوراق الثبوتية، الذين إن خرجوا من المخيم قد يتعرضون للاعتقال، دون وجود حلول جذرية لوضعهم.
8. التخوف من توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان: وهذا يتبعه ضياع حق العودة والتعويض عن الممتلكات وسنوات اللجوء، وهو هاجس يُقلق الكثير من اللبنانيين كما الفلسطينيين، لذا بقيت المخيمات على حالها، إذ يرى البعض أن أي مساس بشكل المخيم الحالي سيؤدي إلى اندماج اللاجئ الفلسطيني في المجتمع اللبناني، مما يؤدي إلى تغيير ديمغرافي في المجتمع اللبناني وضياع الحقوق الوطنية الفلسطينية.
لا سلاح فلسطيني خارج سلطة الدولة اللبنانية
أما الآن، وبعد أن أكد الرئيس عباس خلال زيارته الأخيرة التزامه بسيادة الدولة اللبنانية، مشددًا على أن “قرار السلاح الفلسطيني في لبنان بيد الدولة اللبنانية”، وبعد إشارته إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية تتعاون مع السلطات اللبنانية لتنفيذ ذلك داخل المخيمات، حيث جاءت هذه الزيارة في ظل سعي الدولة اللبنانية الجديدة إلى حصرية السلاح بيد الدولة، خاصة بعد اتهام أطراف لبنانية لحزب الله بأنه جرّ البلاد إلى حرب غير مجدية بسبب دعمه لغزة بعد السابع من أكتوبر 2023.
وُضعت ورقة “لا سلاح في المخيمات الفلسطينية خارج سلطة الدولة” على طاولة لجنة لبنانية-فلسطينية مشتركة، وسط تكهنات إعلامية لبنانية وعربية وعالمية، لخطط وتحليلات أقل ما يقال عنها إنها غير واقعية وغير مستندة إلى معلومات دقيقة، تُستخدم لمحاولة فرض واقع صدامي لبناني فلسطيني غير بريء.
لقد عملت سابقاً الدولة اللبنانية على استراتيجية واضحة ومتدرجة لضبط السلاح داخل المخيمات، بدأت بإقفال ملف السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، والآن تُطرح مسألة “لا سلاح داخل المخيمات خارج سلطة الدولة”، وهنا يكمن بيت القصيد، فما معنى “لا سلاح داخل المخيمات خارج سلطة الدولة”؟
إن عبارة “لا سلاح خارج سلطة الدولة”، فيما يخص المخيمات الفلسطينية، ليست مجرد قرار أمني، بل مشروع طويل الأمد، يتطلب نية سياسية حقيقية، وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة اللبنانية والشرعية الفلسطينية، ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية – السلطة الوطنية الفلسطينية، في إطار العلاقات الدبلوماسية وتسيير الحياة داخل المخيمات، دون إغفال بعض الفصائل الفلسطينية الأخرى التي لا يمكن تجاهلها، فالسلاح خارج سلطة الدولة هو نتيجة وليس سببًا، وهو نتيجة لتهميش الفلسطيني، وغياب الأمل، والانقسام الداخلي اللبناني والفلسطيني، فإذا ما عولجت هذه الأسباب، أصبحت النتيجة قابلة للتحقق.
خطة استراتيجية
بعيدًا عن تكهنات الإعلام والمحللين السياسيين، لن تستطيع الدولة اللبنانية خوض حرب لنزع السلاح الفلسطيني من المخيمات، لأسباب أخلاقية، وإنسانية، وسياسية، وأمنية، لذلك برأيي يجب أن تكون هناك خطة متدرجة وفق النقاط التالية:
أولًا: البُعد السياسي – إعادة بناء الثقة وإشراك القيادة الفلسطينية الحقيقية
1. تشكيل مرجعية فلسطينية موحدة في لبنان:
لا حل دون شريك فلسطيني فعلي وفاعل يمكن للدولة اللبنانية التفاهم معه، فالخطوة الأولى هي دعم إطار سياسي فلسطيني جامع، يُمثّل منظمة التحرير والفصائل الأخرى المؤثرة، ما يستوجب حوارًا داخليًا فلسطينيًا يعيد توحيد الرؤية، من خلال تشكيل قيادة موحدة للفلسطينيين في لبنان، تكون طرفًا واضحًا للحوار، وتوحيد موقف الفصائل، أو على الأقل تحييد القوى الرافضة بالتفاوض معها تدريجيًا.
2. حوار لبناني-فلسطيني مباشر وشفاف:
ليس المطلوب اتفاقًا أمنيًا فقط، بل تفاهم سياسي جديد، يُعيد تعريف علاقة الدولة بالمخيم، وينهي ازدواجية “داخل الدولة / خارج الدولة”، مع بناء علاقات لبنانية فلسطينية ضمن إطار الأخوة وقوانين جامعة الدول العربية ومواثيق وعهود الأمم المتحدة.
ثانيًا: البُعد الأمني – التحول من المواجهة إلى الإدارة
1. تدرّج لا صدام:
تنظيم السلاح لا يمكن أن يكون مفاجئًا أو قسريًا، بل يجب أن يتم تدريجيًا وفق اتفاق واضح.
2. العفو العام:
البدء بالعفو العام بحسب القوانين اللبنانية عن أصحاب السوابق، يُعدّ أساسًا مهمًا لتقليل الكتلة الرافضة والخطيرة التي قد تُشكّل عائقًا أمام تنظيم السلاح داخل المخيمات.
3. لجان أمنية مشتركة داخل المخيمات:
إنشاء قوى أمنية مدنية (على غرار شرطة البلدية مثلاً) بالتنسيق بين الجيش اللبناني ومنظمة التحرير، تتولى الأمن اليومي وتكون بداية لبسط السيادة دون استفزازات، مع تفعيل دور اللجان الشعبية فلسطينيا ولبنانيا، كإطار للمجتمع المحلي الفلسطيني داخل وخارج المخيمات.
4. تفكيك الجماعات الرافضة للاتفاق عبر الضغط الناعم:
بدل المواجهة العسكرية الشاملة، يمكن تفكيك تلك الجماعات بعزلها اجتماعيًا وسياسيًا، وحرمانها من البيئة الداعمة داخل المخيم أو خارجه، مع رفع الغطاء السياسي وتجفيف مصادر تمويلها.
ثالثًا: البُعد الاجتماعي – الحقوق قبل المطالب
1. العدالة مقابل السيادة:
لا يمكن للدولة أن تطلب من اللاجئ الفلسطيني نزع سلاحه والانصياع لسلطتها وهي تحرمه من أبسط حقوقه المدنية. فالحل يبدأ بتسوية لمنح الفلسطينيين حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية الأساسية، وفتح المجال للعمل والتملك بشكل شرعي، ما يغنيه عن اللجوء للاستقواء بالمخيم كملاذ اقتصادي.
2. المخيم كجزء من الدولة لا كاستثناء مؤقت:
يجب دمج المخيم في الخريطة الوطنية القانونية، فليس من المقبول أن تبقى المخيمات خارج تغطية الدولة وتحت طائلة التهميش ثم نطالبها بالولاء الكامل.
3. دعم وكالة الأونروا:
يجب أن تحمل الحكومة اللبنانية خطة لدعم وكالة الأونروا والحفاظ عليها أمام المحافل الدولية والأمم المتحدة كمشروع أساسي في استثمار علاقة الدولة مع المجتمع الدولي.
رابعًا: البُعد الثقافي والإعلامي – تفكيك الروايات المتصادمة
1. إعادة بناء صورة اللاجئ الفلسطيني:
على وسائل الإعلام والخطاب السياسي أن يتوقفا عن تصوير اللاجئ كـ”خطر أمني” أو “قنبلة موقوتة”، بل كإنسان له حقوق وله تاريخ من المعاناة، فالتعاطف الإنساني والتوعية ضروريان لكسر الحواجز النفسية بين الدولة والمخيم، مايغني اللاجيء الفلسطيني من الاستقواء بالمخيم كملاذ أمني.
2. دعم المشاريع الشبابية والتعليمية:
إن المخيم الذي يُنتج طلابًا ومهندسين وأطباء ورجال أعمال، هو مخيم لا يحتاج للسلاح لحماية نفسه. فتمكين الشباب الفلسطيني هو أقوى سلاح ضد الفوضى والتطرف، من خلال التكامل بين الدولة اللبنانية ووكالة الأونروا.
التخوف من توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان
كل تلك العناويع الرئيسية الأربع توجب الضرورة للإجابة على سؤال يحمل في طياته أحد أعقد التناقضات في الملف الفلسطيني اللبناني.
هل تنظيم سلاح المخيمات الفلسطينية، مع منح اللاجئين حقوقهم المدنية وخاصة الاقتصادية والاجتماعية، يُعتبر بوابة للتوطين؟
الحقيقة: لا، ففي القانون الدولي، وفي التجارب الدولية، لا تعني الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للاجئين إسقاط صفتهم كلاجئين. مثلًا:
1- اللاجئ الفلسطيني في الأردن يتمتع بحقوق واسعة (وأحيانًا جنسية)، ومع ذلك لا أحد قال إنه نُسيت قضيتهأو ذاب في المجتمع الأردني أو أثر في التوازنات السياسية الأردنية.
2- كذلك الفلسطيني في سوريا كان يملك حق العمل والتملك والتعليم، لكنه بقي لاجئًا وله وثائق خاصة، وخصوصية داخل المخيمات، مع فرض سلطة الدولة داخل المخيم وعلى الأحزاب والفصائل السياسية الفلسطينية.
إذًا، منح الفلسطيني الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا يعني بالضرورة التوطين، لذلك يجب أن يُربط أي تحسين لظروف اللاجئ الفلسطيني في لبنان بصيغة واضحة ومكتوبة تحفظ حق العودة، مثل:
1. وثائق رسمية وقوانين لبنانية تؤكد أن منح الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا يعني الجنسية ولا التوطين، ولا حقوق سياسية معنية بنظام الدولة اللبنانية ولاينتقص من سلطاتها على أي فلسطيني يتواجد على أراضيها، وفق قوانين الدولة والقوانين والقرارات الدولية المعنية بهذا الشأن.
2. وجود دولي ومنظمات تابعة للأمم المتحدة، وعلى رأسها وكالة الأونروا، لضمان عدم ذوبان هوية اللاجئ الفلسطيني وبالتالي ضياع حق العودة.
3. على الطرف الفلسطيني الحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية، لأنه الطرف المعني الأول، من خلال تفعيل مؤسسات وبرامج معنية بهذا المجال.
وفي الخاتمة يجب أن نكون على يقين بأن:
“السلاح خارج سلطة الدولة ليس سببًا… بل نتيجة. وإذا عولجت الأسباب، تصبح النتيجة قابلة للحل”،
وأن الفرق بين التوطين والكرامة هو: “النية والارادة السياسية” و”الإطار القانوني” الذي يُنظّم العملية.
* د. رمزي كامل عوض – كاتب وناشط في مجال حقوق الانسان، مختص بشؤون اللاجئين الفلسطينيين