صادق النابلسي
كان لا بدّ أن نقع تحت فتنة حكايته، نحن الذين لم يفارقنا السيد طوال ثلاثين عاماً من الحب. حكاية مليئة بالأسرار والمخاطر والقلق والآمال. صحيح أنّ المنطق الذي يحكمها فوق قدراتنا على التفسير والإحاطة بأبعادها الإيمانية الأولى، وتأثير صورها الجمالية والجلالية في مجمل حياتنا، وصولاً إلى مسارها العجائبي الذي أيقظ في أعماقنا أسئلة وجودية- فلسفية ومن كل جهة، ترتبط بالمُثل الإنسانية وقواعد العلاقات البشرية. حكاية استثارت فينا حيرات قديمة، زحزحت يقينياتنا الساذجة عن الموت، كسرت مرايا الأفكار عن سلوكنا مهما كانت مثالية.
صورة السيد التي أصبحت جزءاً من جداريات منازلنا وقلوبنا، من تدبيرات بيوتاتنا ومناهج إدراكاتنا، من سكوننا وحركتنا، من سلمنا وحربنا، تنتقل بنا من التفاصيل الصغيرة إلى المتعاليات في قضايا السياسة الكبرى. اليوم وبعد شهادته نرى صورته بصيغة أخرى. صيغة يمنحنا بها نفسه من جديد، يتابع بها صعوباتنا بلمسة دافئة من كلماته، يعالج مشكلاتنا بمرهم حنان عباراته، يطلّ على كل موضوعات حياتنا وإشكالياتها بما تركه لنا من سلسلة لا متناهية من المقولات التي تصلح إجابات عن أسئلة، وشهادةً على استحقاق، وموقفاً على ما يلوح في أفق المستقبل والمصير.
لقد لبثَ السيد فينا طويلاً ولكننا حسبناها ومضة. يسير موجُه في أرواحنا فتعرف كل الأشياء فينا أنّه سبب ابتسامتنا وسبب كراماتنا وسبب عيدنا. ثلاثون عاماً من دون توقّف يملأ طرقنا المليئة بالحفر بإسفلت الوعي، يجيد استخدام صوته في مشاعرنا وأفكارنا، يصنعنا على مفاهيمه المتجددة، يقرأ لغتنا ويترجم آمالنا. الأقدر على معالجة أمراضنا واقتفاء آثار أحزاننا وتحرّي مرادنا ورسم صور النصر والبطولة فينا. إن اشتهينا الكلام معه كان أقرب من كل قريب، وإن أردنا الهروب من عذابات ذنوبنا وجدناه ملاذاً آمناً.
قد يملّ المرء من تكرار الأشخاص أمامه، قد يتعب من استدعاء الصور القديمة، لكننا عالقون داخل مقولة «الأمس أجمل»، أجمل بلا نهائية الأثر الذي يواصل فورانه في عيوننا وقلوبنا. مسقط رأسنا هو، عندما يدعونا إليه كأنما يدعونا إلى جذورنا التي انغرست فيها أشجار الطهر والإباء والصدق والشجاعة من جيل إلى جيل. كان علينا حين أردنا الانتقال من ضفة العتمة إلى الضوء، أن نركب زورقاً هو ربّانه، وكان علينا حين نريد أن نشبع فضولنا في المعرفة أن نتحرك على حركة ريشته التي تنساب كالماء.
ذبحتنا شهادتك يا سيد، من القلب إلى القلب. كم كنّا نريدك من لحم ودم، تخرج فينا خطيباً، مغواراً، مثل السيف والريح تنزل ضربات كلماتك على العدو ليزداد ضموراً وموتاً.
الماضي جميل لكن حضورك أجمل. كلُّ أوجاعنا كانت مدفونةً فيك، كلُّ أحلامنا كنتَ تنطق بها، كلُّ شرف الشهداء كان يظهر نوراً في وجهك. كنّا نتبارى في حبّك، اليوم نتبارى أيّنا أكثر شوقاً إليك. حتى أمس عيد الأضحى كان الجمر هو الجمر. لم تنسنا في الدعاء. سمعتُ صوتك من مسجلة سيارة كانت تمرّ قربي. اشتعلت أعضائي بالهمّ.
رجعت إلى طاولتي محملاً بأشجان لا تنطفئ. الصوتُ تكرر من جديد، لم يكن مجرد باب من الوجع انفتح، كان شيئاً من العياء الثقيل الذي تضيق الأرض به.
ها نحن يا سيد نحيا ونموت، نفرح ونحزن، عندما يتدفق صوتك ويملأ قلوبنا بعطر الكرامة. نقول لك، مؤلمة هذه الترسبات الباقية من أمطارك فينا، هذه الأنجم الجميلة في عينيك التي لا تطمسها مسافات الرحيل.
أنتَ يا سيدي، لستَ تلك الشمعة التي تحترق لتنير ظلمتنا. شمعتك لا تنطفئ، يمتد شعاعها من الأرض إلى السماء.
أنت يا سيدي، لستَ كطائر مذبوح. جناحاك لا يتوقفان عن الخفقان بين برارينا، تبشّرنا بالنصر الذي وعدتنا به دائماً.
* أستاذ جامعي