في غزة، لا حاجة لصواريخ لتُزهق الأرواح، فالماء وحده بات كافيًا لشنق الحياة.
في المدينة التي لم تهدأ أصواتها منذ شهور، تُحكم الأزمة الإنسانية طوقها حول عنق أكثر من مليوني إنسان، حيث لا كهرباء، لا غذاء، والأهم: لا ماء.
فما يجري ليس مجرد أزمة صحية أو نقصًا في الموارد… إنه تعطيش ممنهج، وسلاح صامت في حرب مفتوحة على تفاصيل البقاء.
“ماء بطعم الموت”… يوميات العطش في ظل النار
في حيّ النصر غرب غزة، يقف أبو حسن النجار أمام خزان ماء خاوٍ إلا من بضع قطرات، يراقبها كما يُراقب المريض أنفاسه الأخيرة.
“صرنا نشتري الماء بأسعار مضاعفة، رغم أنه غير صالح للشرب… فيه طعم مرّ يشبه حياتنا الآن”، يقول بمرارة، ويضيف: “المياه البلدية قُطعت منذ أكثر من 20 شهرًا، صهاريج التحلية التابعة للأمم المتحدة اختفت. اليوم نغتسل ونشرب ونطبخ بنفس الماء… إذا وجد أصلًا”.
ليست مأساة النجار فريدة؛ ففي زقاق مجاور، تجلس شهد العطل قرب غالونات فارغة تنتظر دورها في نقطة توزيع مياه لا تصل دائمًا.
“ننتظر ساعات طويلة، أحيانًا نعود بلا شيء”، تقول بتعب، “أستخدم نفس الماء للغسيل والطهي والشرب… لا يوجد خيار آخر، فقط العطش أو التسمم”.
هي يوميات مريرة تتكرر آلاف المرات يوميًا، حيث بات الوصول إلى الماء معركة بحد ذاتها، تخوضها النساء والأطفال على أبواب المدارس والملاجئ، في أزقة المخيمات، وفي أحياء صارت بلا بنية تحتية، ولا حتى حياة.
الاحتلال يستخدم العطش كسلاح
وفقًا لسلطة المياه وجودة البيئة في غزة، أكثر من 90% من منشآت المياه والصرف الصحي تعرضت للتدمير الكلي أو الجزئي منذ أكتوبر 2023.
الدكتور منذر سالم يؤكد أنّ نصيب الفرد اليومي من المياه انخفض من 120 لترًا إلى أقل من 10، وهو رقم لا يفي بالاحتياجات الأساسية للحياة.
“اليوم يعتمد الناس على المياه الملوثة من آبار بدائية، ما أدى إلى انتشار الإسهال، والتهابات معوية، وأمراض جلدية”، يحذّر.
ولا تتوقف الكارثة عند حدّ الشحّ، بل تتعاظم بفعل انقطاع الكهرباء وغياب الوقود، ما أدى إلى شلل تام في محطات التحلية، ودمار شبكة الضخ، وتحول مياه الصرف الصحي إلى نهر جارٍ في شوارع بعض الأحياء.
شهادات من أرض الظمأ: “كأننا نُعاقب لأننا أحياء”
يقول عبد الكريم السلي، سائق شاحنة مياه كانت تعمل تحت إشراف منظمات إنسانية، إن الاحتلال يستهدف حتى عربات التوزيع ومحطات ضخ المياه.
“ما تبقى من المياه لا نستطيع توصيله… لا وقود، لا طرق، لا حتى تنسيق، كل شيء انهار”، يقول بغصّة.
أما عاصم النبيه، المتحدث باسم بلدية غزة، فيحذر من كارثة عطش جماعي بسبب تناقص الوقود الضروري لتشغيل الآبار، خاصة في ظل تكدس آلاف النازحين في مناطق محدودة، مع ارتفاع درجات الحرارة.
“المشهد مهيأ لانفجار صحي غير مسبوق”، يقول النبيه، “انهيار الصرف الصحي وتلوث المياه ونقص النظافة… وصفة قاتلة للجميع”.
حقوقيون: “العطش في غزة ليس قَدَرًا… بل جريمة”
ما يجري في غزة ليس كارثة طبيعية ولا فشلًا إداريًا، بل وفقًا للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، هو انتهاك واضح للقانون الدولي.
في بيان شديد اللهجة، أكد المركز أن سياسة التعطيش تتعدى كونها مجرد وسيلة ضغط، إلى جريمة حرب موصوفة ترتقي إلى الإبادة الجماعية، خاصة في ظل حرمان السكان من الماء لأشهر طويلة، واستهداف البنية التحتية بشكل متعمد.
“أكثر من مليوني إنسان يتعرضون يوميًا لخطر الجفاف والأمراض”، جاء في البيان، “ما يتطلب تحركًا دوليًا فوريًا، وفتح ممرات إنسانية لتوريد المياه والمعدات والوقود، قبل أن نتحول من كارثة إلى مجزرة صامتة”.
الماء ليس رفاهية… بل عنوان وجود
في غزة، أصبح شرب الماء امتيازًا، والاغتسال حلمًا، والنظافة ترفًا، والصمود… فرض عين.
من يراقب الوضع اليوم يُدرك أن العطش ليس مجرد معاناة؛ إنه سلاح يستخدم لتكسير الإرادة، وإنهاك الروح، وتحطيم الجسد.
لكن غزة، التي صمدت على الحصار والقصف، لن تستسلم للعطش. فهي تتقن النجاة… وإن كانت على قطرة.