آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [7]

علم_حزب_الله.svg_-1-r5n52ou3nnevvz0vxd4747kjxn1bsg0iaidxyb9zlc-r5y5z2fqft4ip2cwu3e6135yorfw0svt3exil3r9f4-r69u7dni9en623n44e1niiej01x3gd8cdlrue4ux68

أسعد أبو خليل

بين الانتصاريّة والانهزاميّة (4)

مرحلة التسعينيّات في حياة حزب الله كانت مفصليّة؛ لأنّها نقلَته من موقع الانتصارات العسكريّة إلى مرحلة الانتصارات السياسيّة، ومن مرحلة العمل السرّي في نطاق حزب النُّخبة إلى نطاق حزب الجماهير العريض. لكنّ الفوز العظيم تمثّل في انسحاب العدوّ في عام 2000. الأدبيّات الصحافيّة والأكاديميّة الإسرائيليّة تعترف صراحةً أنّ فعالية المقاومة هي التي عطّلت خُطط إسرائيل في الحفاظ على منطقة أمنيّة دائمة في جنوب لبنان. ليس الماء أو المزروعات أولويّة في حسابات السيطرة على الجنوب (وإن كان ذلك وارداً في الأدبيّات الصهيونيّة)، ولكنّ هذه دولة تحتلّ وتقتطع من الأراضي العربيّة بقدر ما تستطيع، وبالنسبة إلى قوّة أو ضعف ردع أو ردّ الطرف الآخر.

إسرائيل انسحبت من سيناء فقط لأنّ أميركا أقنعَتها أنّ تنازلات السادات وإقصاء مصر عن الصراع العربي-الإسرائيلي مفيد لإسرائيل إلى درجة تستحقّ معه هذا الانسحاب. لكنْ بقيت هناك لسنوات دعواتٌ للاستمرار في الاحتلال في سيناء. الجنوب اللّبناني ماثل في المخيّلة الصهيونيّة والدينيّة عند الإسرائيليّين، ومراجعة اتّفاقيّة 17 أيار تفضح نيّة إسرائيل في الحصول على تشريع لبناني قانوني لاحتلالها لجنوب لبنان بمسمّيات مختلفة.

الذي يقارن بين اتّفاقيّة 17 أيار واتّفاق وقْف النار الأخير -على سوئه وشناعته- لم يقرأ الاتّفاقيّة التي منعَت انتقاد إسرائيل والصهيونيّة في الإعلام اللّبناني. ولا يزال هناك لبنانيّون يحرصون على سمعة إسرائيل ومصداقيّتها أكثر منها: هؤلاء يخافون على صورتها من الإذلال الذي ألحقَته بها المقاومة. البعض يصرّ أنّ الانسحاب في 2000 كان نتيجة تنفيذ لوعد انتخابات لباراك. لكنْ: لماذا وعد باراك بالانسحاب؟ هل الوعد كان نابعاً من نيّة حسنة ومنطلقات رأفة صهيونيّة؟ الوعد صدر كردّ على رغبة شعب الكيان في وقْف النزيف الإسرائيلي في لبنان (حرصاً على حياة الإسرائيليّين فقط، طبعاً). لو أنّ الاحتلال لم يكن يواجه مقاومة صلبة وفعّالة، لم يكن باراك قد وعد شعبه بالانسحاب من لبنان.

تبقى خطبة حسن نصرالله الشهيرة في بنت جبيل في 2000 بعد التحرير ماثلة في الأذهان. تركت خطبة «أوهن من بيت العنكبوت» أثراً كبيراً في الوعي العربي -قبل تشويهه في سنوات طويلة من التحريض الطائفي والمذهبي من أجل تقويض دعائم نُصرة المقاومة في أوساط الشعب العربي والإسلامي. الخطاب المذكور متين في مضامينه ويميّزُ -لمن يعودُ إليه- بين خطاب مرحلة سابقة وخُطب نصرالله التي كانت تجمع بين الأطروحات شبه الأكاديميّة والبيان الحماسي العربي الذي تنتظره الجماهير بشَوق. والسخرية من الخُطب الحماسيّة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي كانت جزءاً من قِيَم أدب «النقد الذاتي بعد الهزيمة».

ثقافة الهزيمة أرادت أدباً سياسيّاً عربيّاً مختلفاً: دعا سيسيل حوراني وأحمد شومان وغيرهما إلى «الواقعيّة»، وهذه المدرسة هي التي أهّلت السادات إلى إطلاق مبادرته المشؤومة. نصرالله والمقاومة كسرا انتشار مدرسة الواقعيّة لأنهما كرّسا فكرة واقعيّة تغيير موازين القوى بيننا وبين العدوّ وزعزعة التركيبة السياسيّة في المنطقة. الواقعية كانت تدعو إلى وقْف أعمال المقاومة، وهذه الدعوات بدأت في 1982 ولم تنتهِ حتّى تحقيق التحرير في 2000 – وعلى يد المقاومة.

خطاب النصر الحقيقي لنصرالله في 2000 كان أقلّ انتصاريّةً من خُطب الهزيمة لياسر عرفات. خُطب عرفات بعد الترحيل القسري لكلّ قوات المقاومة الفلسطينيّة من لبنان في 1982 كانت حافلة بالتهديد والوعيد وبالتعامل مع ما حصل على أنّه نصرٌ آخر يُضاف إلى رصيد منظمة التحرير. وازنَ نصرالله بين انتصاريّة ضروريّة في هذا اليوم والتحذير من نيّات العدوّ ومقاصده. هو حذّر في هذا اليوم بالذات من عدوانية إسرائيل وأنّها لا يمكن أن تسمح لنا بالبهجة أو الفرح. كان يحضّر الجمهور لأعمال انتقاميّة ضدّهم بسبب نجاحهم. هذه الفكرة أنّ الصهيونيّة لا يمكن أن تسمح، في عقيدتها الإستراتيجيّة ضدّ العرب، لنا بالنصر. التحذير كان يجب أن يكون نبراساً لأعمال تحصين المقاومة والدفاع عن لبنان، وهذا ما حصل بفعل النصر الأكبر في حرب تمّوز.

لكنْ فكرة «أوهن من بيت العنكبوت» في الخطاب: هل أنّها كانت سابقة لأوانها، أو أنّها عمّمت التراخي في صفوف البعض؟ نصرالله من وراء نظريّة ضعْف إسرائيل كان يستعمل طبعاً تعبيراً مجازيّاً، وهو ردٌّ مباشر (وضروري) على فكرة أن إسرائيل لا تُقهر. وهناك في تراث أدبيّات التاريخ الإسلامي الكثير من النماذج عن حالة الانهزاميّة واليأس التي أصابت المسلمين والعرب في الصراع ضدّ المغول والصليبيّين. كتب ابن الأثير في مقدّمة الجزء السابع عشر من «الكامل في التاريخ» عن اجتياح المغول: «لقد بقيتُ مدّةً متحيّراً في أمرهم، لا أدري كيف أوردُ حكايتهم، إذِ الناس يظنّون أنّهم لا يُهزَمون، وقلَّ أن يتجرّأ أحدٌ على قتالهم».

وابن تيميّة كتب عن الانهزاميّة نحو التتار فقال: «وإذا كان الكفّار يقهرون المسلمين أحياناً، فليس ذلك لفضلٍ فيهم، بل لذنوبٍ في المسلمين وتقصيرهم في التوكّل والجهاد» (أي إنّه دحض فكرة أنّ التتار لا يُهزَمون). الصفدي في «الوافي بالوفيات» كتبَ عن هجوم المغول: «هالَ الناس أمرهم، واعتقدوا أنْ لا سبيلَ إلى ردّهم». ابن الوردي في «تاريخ ابن الوردي» قال عن غزو المغول: «هذه أمّة لا تُقهر، ولا يُردُّ لها طلب». أسامة بن منقذ تمرّد على الرأي الشائع عن الصليبيّين وقال في «كتاب الاعتبار»: «جهلهم بالطب، وبالسياسة، وبتنظيم الجيوش، وقلّة فطنتهم تجعلهم عُرضةً للهزيمة عند أوّل مواجهة جادّة».

من حقّ المؤمنين في حزب الله أن يختاروا من الشعارات والعناوين ما يشاؤون (وهذا حقّهم الحزبيّ وحتى الديني) لكنّ المغزى أو الحديث هنا هو في انعكاس الشعارات على معنويّات المقاتلين والمناصرين

ضدّ كلّ هذا التراث التعجيزي إزاء العدوّ (بعد إسقاطه على حالة إسرائيل)، طلع نصرالله بمقولة «أوهن من بيت العنكبوت». وإسرائيل زرعت هذه الفكرة، أنّها لا تُقهر، منذ الثلاثينيّات، وكانت خطّتها أن تستعين بأضعاف العنف المُفترض استعماله من الناحية العسكريّة كي تصيبَ صفوف العرب بالإحباط والتأييس الشديد. سلسلة المجازر التي ارتكبَتها قبل النكبة وأثناءها وبعدها لم تكن بغرَض عسكري، بل من أجل توطيد عقيدة التفوّق المُطلق ليس لإسرائيل فقط بل للعنصر اليهودي مقارنةً بالعربي والمسلم.

وفي طلباتها العسكريّة من أميركا، أصرّت إسرائيل على الحصول على السلاح الذي يتيح لها، ليس فقط هزيمة هذا الجيش العربي أو ذاك، بل كلّ الجيوش العربيّة مجتمعةً، وتحقّق لها ذلك منذ الخمسينيّات من القرن الماضي (ولا تزال هذه عقيدة الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل). والاتّفاقات الإبراهيميّة تزيد من قدرة الإمارات والمغرب على الحصول على سلاح متطوّر لكنّه أدنى مستوى بكثير من السلاح الذي تحصل عليه إسرائيل. أراد نصرالله أن يُثبت أنّه يمكن للعرب والمسلمين أن يقهروا الإسرائيلي لكنْ بحسابات عسكرية واستخباراتية دقيقة ومن دون استعراض وتهريج صاحبا مسيرة منظّمة التحرير الفلسطينيّة.

لكن بالمعنى الحرفي، لا، إسرائيل ليست «أوهن من بيت العنكبوت» طالما أنّ هناك أميركا وراء إسرائيل. وإسرائيل بنَت قوّة جبّارة عبر السنوات والعقود، والقوّة هذه يجب ألا تدفعنا نحو الانهزاميّة ولا نحو الانتصاريّة لو نحن قلّلنا من حجمها وضخامتها ووحشيّتها. هل أنّ هناك في المحور مَن قلّل من شأن إسرائيل بسبب النصر الكبير؟ هل أنّ نصر تمّوز زاد من نزعة التقليل من قوّة إسرائيل؟ هذا أمر يحتاج إلى تدقيق وتمحيص ومراجعة على مستوى الحزب (وهذا شأنه هو ومسؤوليّته أمام جمهوره الحزبي وجمهوره العريض خصوصاً أنّنا اليوم في معرض النظر في قرارات «طوفان الأقصى» و«حرب الإسناد»). حسابات الربح والخسارة قبل الحرب هي غيرها بعد الحرب.

ثم، إذا كانت إسرائيل «أوهن من بيت العنكبوت»، ماذا نكون نحن؟ نحن عسكريّاً وسياسيّاً أضعف ككتلة عربيّة وإسلاميّة من إسرائيل بسبب الرعاية الأميركيّة المباشرة. حسنٌ أن ندحض نظريّات أنّ «إسرائيل، كما المغول، لا تُقهر»، ولكنْ ليس على حساب التقدير الدقيق لقوّة العدوّ العسكريّة. في حرب تمّوز، كان العنوان «النصر الإلهي»، وهو شعار يشحذ هِمماً ويشدّ عزيمة جمهور الحزب المتديّن. لكنّ النصر، وقد كان حقيقيّاً باعتراف العدوّ (دوري شمعون متأكّد أنّ إسرائيل لا يمكن إلّا أن تنتصر وأنّها لم تستعمل كلّ قوتها في حرب تمّوز بسبب إنسانيّتها الفائقة وإلّا فهي كانت ستضمن النصر) ليس محتوماً في أيّ حال.

فكرة النصر الإلهي قد تكون قد تسبّبت، من دون قصد، في تعظيم إمكانية النصر للمقاومة. والرسول خاض معارك عسكريّة لم يفز فيها مثل غزوة أحُد ومؤتة وحُنين (في بدايتها) وصُلح الحديبيّة (الأخير كان تنازلاً عسكريّاً وسياسيّاً). وكان للرسول آراء عسكريّة كان مستشاروه يخالفونه فيها (مثل اختيار موقع في غزوة بدر، وكان يرجع عن فكرة له إذا رأى صوابية في غيرها). وهل أنّ هزيمة المسلمين في معارك كانت هزائم إلهيّة؟ من حقّ المؤمنين في حزب الله أن يختاروا من الشعارات والعناوين ما يشاؤون (وهذا حقّهم الحزبيّ وحتى الديني)، ولكنّ المغزى أو الحديث هنا هو في انعكاس الشعارات على معنويّات المقاتلين والمناصرين.

هل أنّ النصر الإلهي أدّى إلى ترسيخ فكرة أنّ الحزب لا يُهزَم ولا يُقهَر، وهل أدّى ذلك إلى حالة من التراخي والاستراحة رغم جهود الآلاف من المقاومة في التحضير للمعركة والإعداد لها؟ هل أنّ ذلك أدّى إلى -ليس لوحده لكنّه أسهم- في تعظيم قوّة الحزب والتقليل من قوّة الخصم؟ وإسرائيل هوّلت كثيراً حول قوّة حزب الله وأنّه أكبر جيش في المنطقة. هل أنّ ذلك كان حرباً نفسيّة مِن قِبل العدوّ كي يعتدّ الحزب بنفسه أكثر من اللّازم؟ هل أنّ إعلان العدوّ أنّه شكّل فرقة عسكريّة خاصّة لردّ اجتياح من قوّة الرضوان للجليل كان جزءاً من الحرب النفسيّة؟ هل أنّ الحزب اغترّ بقدراته بسبب مبالغة العدوّ المُعلَنة (وليس السرّية) في تقييم قوّته العسكريّة؟

لكنْ، نحن لا نعرف مجريات التطوّرات العسكريّة الميدانيّة. هل أنّ الخروقات الاستخباراتيّة (الإلكترونيّة والبشريّة) شلّت قوّة الحزب بدرجة منعَته منِ استخدام قوّته العسكريّة؟ نحن لا نستطيع أن نتيقّن من معلومات منشورة في الصحافة الغربيّة أو العربيّة عن أخبار تخريب إسرائيل في منصّات الصواريخ الذكيّة؛ لأنّ ذلك يمكن أن يكون دسّاً موساديّاً. الموساد هي الناطق حول شؤون الحزب في الصحافة العربيّة والغربيّة.

الحزب لم يُفصِح عن المجريات ولا يجب أن يُفصِح على أن لا ينعكس ذلك على إجراء مراجعة نقديّة داخليّة قاسية ولا ترحم. إنّ إمكانيّة النهوض للحزب واستعادة قوّة الردع تعتمد على استعداد الحزب لإجراء تلك المراجعة القاسية. قد ينسى البعض أنّ النظام الناصري في تحضيره السريع لردّ العدوان وفتْح حرب الاستنزاف أجرى مراجعة جدّية وسريعة حول وضْع القوات العسكرية والمخابرات والأخطاء القاتلة لكلّ منهما. وأُجرِيت محاكمات واعتقالات بسبب ذلك.
(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة