آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [8]

علم_حزب_الله.svg_-1-r5n52ou3nnevvz0vxd4747kjxn1bsg0iaidxyb9zlc-r5y5z2fqft4ip2cwu3e6135yorfw0svt3exil3r9f4-r69u7dni9en623n44e1niiej01x3gd8cdlrue4ux68-r6muusonymcbmkysw5ikw2ft6wul59l8nd9ovtfu5s

أسعد أبو خليل

حرب تمّوز: لم تكن حرب تمّوز متوقّعَة، لا عند الحزب ولا عند إسرائيل. كان لبنان ينعمُ بردعِ قوّة المقاومة عندما أراد الحزب استثمار القوّة التي برزت بعد تحرير الجنوب في 2000 من أجل تحرير أسرى لبنان. هذه القوّة الردعيّة لم يسبق للبنان أن حازها، ولم يحُزْها أيُّ نظام عربي قبل ذلك ولا بعده. الحكومة كانت منقسمة بين جناح سيادي مقاوِم يقوده إميل لحّود، وجناح خانع مرتهَن بالكامل لأصدقاء إسرائيل (كي لا نقول مُرتهَناً لها).

لم يكن الأسرى اللّبنانيّون في سجون العدوّ أولويّة أو همّاً للحكومات المتعاقبة، والحزب أصرَّ على فرْض ثقافة وسياسة جديدتين في احترام الذات والوطن والحدود. الحزب لم يتوقّع الحرب ولم يُرِدها، أراد فقط تحريك مفاوضات الأسرى من موقع الحصول على ورقة ضغط لم تمتلكها الدولة التي تعوّدت على الضعف. انفجرت الحرب لأنّ إسرائيل لم تكن لتقبل بتغيير موازين القوى خصوصاً إهانة عقيدتها العسكريّة المؤسِّسة (هذا هو جانب من حرب الإبادة ردّاً على «طوفان الأقصى»).

كلّما تجرّأ طرَف عربيّ على مباغتة إسرائيل تقوم إسرائيل بتشديد العنف وتعميمه أكثر على مستوى صناعي. لإسرائيل وحدها الحقّ في المبادرة والمباغتة العسكريّة. هذه عقيدتها ضدّ العرب: أن يبقوا خائفين خانعين لا يفكّرون -مجرّد التفكير- في مهاجمة إسرائيل حتى لو كانوا يعانون تحت احتلال وحشي. وزرْعُ الخوف من إسرائيل تحقّقَ إلى أبعد مدى بالنسبة إلى الجيوش العربيّة. آخر مواجهة مباشرة كانت في عام 1973 (رغم مشاركة الجيش السوري بعد ذلك في 1982 في حرب بدأَتها إسرائيل ضدّ لبنان). شروط إسرائيل هي ليست فقط أن تسيطر، بل أن تكون سيطرتها كليّة. هي اتّفقت مع أميركا، منذ عهد ريغان، أن يكون لها من السلاح والدعم الأميركي ما يسمح لها بإلحاق الهزيمة بأيّ جيش عربي، أو بأيّ مجموعة من الجيوش العربيّة (مهما كان عددها، أيْ تفوّق عسكري كاسح بضمانة أميركيّة مباشرة).

والسياسة الأميركيّة استمرّت على هذا النمط، وهذا يفسّر لماذا كان الجيش اللّبناني قبل الحرب الأهليّة أفضلَ تجهيزاً وإعداداً ممّا هو عليه اليوم عندما توّلت أميركا أمر الجيش بالكامل (لكنْ من واجبنا شكرها على إمداد الجيش بأقلّ من نصف دزّينة طوّافات زجاجيّة يمكن إسقاطها بإجاص في أيدي صبْية في الحيّ). الجيش لم يستعمل قوّته العسكريّة قبل الحرب لفرض سيادته بوجه عدوان إسرائيل، لا بل هو سخّرها ضدّ المقاومة الفلسطينيّة متولّياً أمن إسرائيل بإيعاز أميركي.

ومواجهة حزب الله في الحرب في تموز 2006 اختلفت جذريّاً عن مواجهات المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة في زمانهما (رغم البطولات غير المنظّمة في أكثرها):

1) الحزب كان قد نجح في إحاطة عمله العسكري والاستخباراتي بالكثير من السرّية. العمل العسكري كان ضمن دائرة ضيّقة والاختراقات كانت شبه مستحيلة، والعدوّ لم يكن يعرف عن مواقع وتفاصيل. لكن السرّية لم تكن كما يصوّرها البعض اليوم. أحمد منصور (إعلامي «الجزيرة») روى قصّة شبه خياليّة عن لقاء مع حسن نصرالله وكيف أنّهم عصبوا عينَيه ووضعوه في سيارات معتمة ونقلوه من مرآب إلى آخر فآخر.

هذا لم يكن صحيحاً بحسب كثيرين قابلوا الأمين العام، بما فيهم كاتب هذه السطور، الذي توجّه مرتَين بسيّارة أجرة عاديّة لمقابلته. درجة السرّية لم تكن كما كانت في الثمانينيّات عندما كان اسم الحزب وأسماء قادته مجهولة. لكنّ العمل العسكري في الجنوب كان مصاناً. مواقع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنيّة كانت معروفة من الجميع، وحتى المكاتب الأمنيّة كانت معروفة وكنتَ تستطيع أن تعطي موعداً مع رفاق عبر القَول: «في المكتب الأمني للجبهة» أو صيَغ من هذا القبيل. وكانت أعلام الفصائل تُنصَب على المكاتب، والملصقات تملأ المبنى الذي يشغله التنظيم، فلا يمكن أن يساورك شكّ بهويّة شاغليه التنظيميّة على الإطلاق.

الحزب كان حتى تلك اللّحظة (قبيل حرب تمّوز) أبعد ما يكون عن الانفلاشيّة مع أنّ عمله السياسي فتحَه بعض الشيء أمام الناس، إلّا أنّ القطاع العسكري كان مفصولاً (ليس بالكامل بسبب التواصل) عن القطاع السياسي.

2) لم يحدث أيُّ انسحاب من أرض المعركة في حرب تمّوز. هذه هي البطولة في تلك الحرب: بقي المقاتلون في مواقعهم رغم شدّة النيران، تحت القصف وفي مواقع مجهّزة تحت الأرض في شبكات أنفاق بسيطة لكن مُعدّة بعناية. وهذه البطولة سُجَّلت في هذه الحرب الأخيرة في 2024 رغم الضربات الكبرى التي تعرّض لها التنظيم، ورغم خسارة الأمين العام، ورغم حدوث عمليّات فرار لم تكن واسعة النطاق.

تواضع الحزب، لكن زاد من ضلوعه في السياسة اللّبنانيّة التي كانت له بمنزلة المهلكة. وهذا جزء من المراجعة التاريخية للحزب، حيث شكّل الدخول السياسي في الحُكم عبئاً ثقيلاً على قوّة المقاومة ورصيدها

3) كان الحزب يعمل بناء على خطط تفصيليّة معدّة بعناية. لم يكن هناك عفويّة في العمل أو اعتباطيّة على طريقة تجربة منظّمة التحرير. التدريب وحسابات الربح والخسارة ودراسة العدوّ أصبحت ثقافة متّبعة في الحزب.

4) الإنفاق الرشيد وتوزيع التمويل على نواحٍ متعدّدة من التنظيم. كانت تصل إلى منظّمة التحرير أموال طائلة وأسلحة متنوّعة ومن مصادر مختلفة: عربيّة (بما فيها الخليجيّة) والأوروبيّة الشرقية والصينيّة والكوبيّة والسوفياتيّة، ولكنّ الإنفاق لم يكن رشيداً، والفساد كان شائعاً، وكان هناك استنسابية كبيرة في التوزيع، إذ إنّ عرفات فضّل شخصيّات على أخرى في تنظيمه، وتنظيمات على أخرى في المنظمة، وكان يعاقب تنظيمات وشخصيّات في «فتح» كما في غيرها عبر تقتير المال أو ضخّه على المحظيّين.

نصرالله كان مدركاً لأخطاء المرحلة الماضية وأشرف شخصيّاً على إدارة حرب تموز 2006 في كلّ جوانبها (قبل نزوله تحت الأرض لأنّه كان معرّضاً للاغتيال في أيّ لحظة، الغريب أنّ إعلام الخليج جعل من استهداف نصرالله من إسرائيل واضطراره إلى الاختباء نقيصة بدلاً مِن أن يتشرّف المرء العربي باستهدافه من قِبل إسرائيل). الحزب درس جيّداً نوعيّة السلاح الذي يحتاجه في مواجهة إسرائيل. في زمن منظّمة التحرير، كان هناك إعداد لطيّارين في دول شرقيّة وعربيّة كأنّ منظّمة التحرير ستحصل على سلاح جوّي. أحسن الحزب اختيار السلاح المناسب وانتقاء ما تحتاجه المواجهة مع إسرائيل من عتاد وسلاح.

أنفقوا على صواريخ كورنيت والصواريخ المضادّة للسفن وقد غيّرت قواعد اللّعبة في حرب تمّوز. لم يكن هناك مفاجآت عسكريّة تُذكر (من قبل المقاومة) في أيّ مواجهة بين منظّمة التحرير وإسرائيل، باستثناء البطولات الفردية التي امتازت بها تلك المواجهات (مثل استعمال الطيران الشراعي من قبل «القيادة العامّة»). لكنّ البطولات لم تكن مُنظّمة من فوق. ما بالك وقائد القوات المشتركة في 1982، الحاج إسماعيل، كان أوّل المنسحبين من الجنوب؟

5) العقيدة العسكريّة التدريبيّة اختلفت كثيراً بين المقاومة الفلسطينيّة والمقاومة اللّبنانيّة الأخيرة. قوّات منظّمة التحرير كانت تتدرّب كجيش نظامي ومن دون مرونة تقتضيها حرب العصابات. وكان مدرّبو القواعد العسكريّة في مختلف التنظيمات خرّيجي مدارس عسكريّة تقليديّة (في سوريا والعراق أو ليبيا أو دول أوروبا الشرقيّة). القلّة القليلة، على علمي، تخرّجت من مدارس عسكريّة في فيتنام أو الصين أو كوبا. النظرة العسكريّة كانت مُحافظة.

الحزب اعتمد المرونة الفائقة (مثل «المارينز» الأميركي) حيث استطاعت وحدات مقاتلة أن ترتجل على أرض المعركة من دون انتظار الأوامر من المركز. عرفات كان يمسك بزمام الأمور ويريد أن يتدخّل في كلّ التفاصيل العسكريّة والتنظيميّة والماليّة. والمرونة العسكريّة عند الحزب هذه هي من السِّمات التي ميّزت جيش العدوّ ضدّ الجيوش العربيّة في الحروب المتوالية (ذكر ذلك، عن الجيوش العربيّة، كنيث بولاك في كتابه الموسوعي «العرب في الحرب»). وهذه المرونة ظهرت في حرب تمّوز.

6) دراسة العدو وفهْمه أصبحا علماً عند الحزب. الحزب الذي أنشأ مدرسة لتعليم العبريّة خرّج كوادر تستطيع أن تخترق أجهزة اتّصالات العدوّ وأن تستولي حتى على معلومات من طيارات الاستطلاع. دراسة العدوّ كانت ضحلة في التثقيف السياسي والعسكري في تجربة المقاومة الفلسطينيّة. يكفي أنّ محمود عبّاس كان خبير الإسرائيليّات المُعتمَد عند ياسر عرفات. أمين عام الحزب كان بالفعل خبيراً في الشأن الإسرائيلي، يعرف كل أسماء القادة العسكريّين في الكيان، ويقضي الساعات في دراسة الشؤون الإسرائيلية بصورة يوميّة.

7) أتقن الحزب الإعلام الحربي أكثر من كلّ التنظيمات اللّبنانية والفلسطينيّة ومن كلّ الحكومات العربيّة. الدقّة والرصانة والصدق كانت من سِمات إعلام الحزب الحربي. ولهذا برزت استطلاعات يظهر فيها أنّ الشعب الإسرائيلي يثق بمصداقيّة حسن نصرالله أكثر من مصداقيّة قادته. عرف الحزب كيف يستعمل الصوت والصورة والكلمة ومن دون تبجّحٍ صاحَبَ تجربة إعلام منظمة التحرير الذي ساءَ بعد الانتقال من تجربة أحمد الشقيري إلى قيادة عرفات.

8) التواضع والشهامة في النصر كانا سمتَين مميّزتَين في تجربة الحزب بعد حرب تمّوز، وذلك من ضمن سياق الانتصارات العربيّة الإسلاميّة التاريخيّة مثل المواجهة بين صلاح الدين والفرنج. تعرّضَ نصرالله لمساءلات من قِبل وليد جنبلاط وباقي فريق 14 آذار حول إهداء النصر، كأنّ ذلك من ضمن الإستراتيجيّة الحربيّة. لكن نصرالله تجاوب مع الدعوات وأكّد أنّه يهدي النصر للشعب اللّبناني برمّته، مع أن نصفه (أو أكثر في فريق 14 آذار) كان يتمنّى النصر لإسرائيل ضدّ المقاومة. تقارن تلك التجربة مثلاً بإعلان النصر المبالغ فيه كثيراً (من قِبل المقاومة الفلسطينيّة) في معركة الكرامة في 1968 والتي استخدمها ياسر عرفات سياسيّاً لسنوات طويلة.

تواضع الحزب، لكن زاد من ضلوعه في السياسة اللّبنانيّة التي كانت له بمنزلة المهلكة. وهذا جزء من المراجعة التاريخية للحزب، حيث شكّل الدخول السياسي في الحُكم عبئاً ثقيلاً على قوّة المقاومة ورصيدها. وكان نصرالله يخطب في مواضيع داخليّة محضة، مثل أزمة النفايات وغيرها من القضايا الداخلية.

لكنْ هنا انفصل إعلام الحزب: الإعلام الحربي كان ذروة في المهارة والفعالية، فيما كان الإعلام السياسي من أضعف تجارب الإعلام في لبنان. كلّ الإعلام اللّبناني تفوّق على الحزب وأسهم في خلْق جوّ معارض له. وليس الكلام عن الموارد هو الجواب، لأنّ حكومات «الناتو» وسوروس شكّلت وسائل إعلام عدة، وكانت أفضل بكثير (في الفعاليّة والشكل) من إعلام الحزب القاتم.
(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة