محمد الأيوبي
حين تتراكم الإخفاقات في السياسة الخارجية على نحو متسلسل ومركزي، فإنها لا تكون أخطاءً تقنية، بل تعبير واضح عن خلل بنيوي في المنطق الإمبراطوري ذاته. من غزة إلى طهران، يتكشّف أمامنا اليوم مشهد فاضح من انهيار سرديات السيطرة، من فشل الذكاء العسكري إلى تضعضع الهالة الأخلاقية، ومن عقم العقيدة الأمنية «الإسرائيلية» إلى تآكل الهيمنة الأميركية نفسها.
بدأ بنيامين نتنياهو حملته الأخيرة على غزة في أعقاب عملية «طوفان الأقصى»، مدفوعاً بعقيدة متكررة مفادها أن الردع يعني الإبادة. لكن ما حدث منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 لم يكن عملية ردع، بل أقرب إلى جريمة موثقة، تتكشف على شاشات العالم كعرض حيّ لفشل الهندسة الاستعمارية في السيطرة على شعب أعزل.
مارس جيش الاحتلال حربين: واحدة على الأرض، وأخرى من الجو. الأولى حفر فيها المقاوم الفلسطيني مجده في أنفاقه، والثانية بنى فيها نتنياهو قبره السياسي من فوق أنقاض المستشفيات وأجساد الأطفال. لم تُجدِ آلاف الغارات نفعاً في تدمير البنية التحتية للمقاومة، بل أظهرت أن الكيان الصهيوني، بكل ترسانته، عاجز عن اقتلاع فكرة. والأسوأ، أن هذه الفكرة صارت رمزاً عالمياً للكرامة الإنسانية في وجه الهيمنة.
لم تنتهِ الحرب في غزة، ولكنها أثبتت حقيقة صادمة: أن الكيان الصهيوني لم يعُد قادراً على الانتصار، لا في الميدان ولا في الوعي. إسرائيل خسرت بوصلتها الأخلاقية والسياسية، وتحوّلت إلى نموذج مكروه عالمياً، وهي الآن تُجرّ إلى محكمة التاريخ التي لا تنسى.
حين شعر نتنياهو أن فشله في غزة بات مكشوفاً حتى أمام حلفائه، اختار الهروب إلى الأمام: قصف المنشآت النووية الإيرانية واغتيال قادة الحرس الثوري. بدا في لحظات الصباح الأولى من 13 حزيران/يونيو أن إسرائيل استعادت زمام المبادرة. لكن هذه «العودة» لم تدم أكثر من ساعات.
ففي مساء اليوم ذاته، بدأت طهران حربها المعاكسة، على نحو غير مسبوق. أكثر من 500 صاروخ باليستي ومجنح فرط صوتي شلّت قواعد الاستخبارات الإسرائيلية وضربت تل أبيب وحيفا. لا أحد من صقور واشنطن أو تل أبيب توقّع أن المعركة ستكون بهذه الحدة، أو أن إيران ستخوضها علناً، وتُعلن مسؤوليتها دون مواربة. لقد تكسرت أوهام «الضربة الوقائية» على صخور الواقع الإيراني.
المنظومة السياسية التي قادت غزو العراق وأفغانستان، ودمّرت ليبيا وسوريا، هي نفسها التي تدفع الآن نحو صدام شامل مع إيران. هذه هي نخبة واشنطن العميقة، ممّن يرون في كل بلد مستقل خطراً وجودياً على «العظمة الأميركية». لا يهمهم إن كلفت هذه المغامرات مئات آلاف الأرواح، أو تريليونات من الدولارات، أو حتى انهيار هيبة الولايات المتحدة نفسها. فالحرب بالنسبة إليهم ليست خياراً بقدر ما هي عقيدة، حتى ولو كانت انتحارية.
يظهر نتنياهو كقائد عالق في منطق ماضٍ لم يعُد صالحاً: منطق القوة الكاسحة والحسم العسكري السريع
لكن إيران ليست «دولة هدف» سهلة. هي ليست دولة مفككة، ولا نظاماً هشاً. إنها أمة ذات تاريخ طويل، واقتصاد متماسك رغم الحصار، وجيش عقائدي صلب، وحلفاء على امتداد الجغرافيا. وهي اليوم لا تُقاتل فقط دفاعاً عن سيادتها، بل لتحطيم نموذج الغطرسة الغربية ذاته.
الرد الإيراني الكاسح أتى ليؤكد أن مرحلة «الهيمنة الأميركية من دون تكلفة» قد انتهت. لم تعد واشنطن قادرة على خوض حروب بالوكالة ثم الانسحاب بلا تبعات. كل حرب اليوم ترتدّ إليها مباشرة، سواء عبر الهجمات على قواعدها أو ضرب مصالحها في الخليج والبحر الأحمر.
والأخطر من ذلك أن هذا الصدام يُسرّع من تشكّل محور عالمي مضاد. روسيا والصين وإيران، وحتى كوريا الشمالية، لم تعد تربطها مجرد مصالح مشتركة، بل أهداف إستراتيجية موحدة: إسقاط عالم القطب الواحد. لقد دفعت سياسات واشنطن الرعناء بهذه القوى إلى التقارب كما لم يحدث منذ الحرب الباردة.
بالنظر إلى تسلسل الأحداث، يظهر نتنياهو كقائد عالق في منطق ماضٍ لم يعُد صالحاً: منطق القوة الكاسحة والحسم العسكري السريع. وهو إذ يحاول إعادة عقارب الساعة إلى مرحلة «التفوق الإسرائيلي»، يدفع بالمنطقة إلى حافة الانفجار، ويقوّض ما تبقى من شرعية الكيان في الداخل والخارج.
في الواقع، لم يعد نتنياهو قائداً، بل رمز لأزمة بنيوية في المشروع الصهيوني كله. لقد فشل في غزة، وعجز عن كسر المقاومة، ثم ورّط كياناً هشاً في مواجهة قوة إقليمية كبرى، وأعاد رسم المشهد على نحو لم يعد لمصلحة إسرائيل بأي شكل.
المفارقة المدهشة أن المقاومة الفلسطينية – رغم المجازر والحصار والتجويع – باتت أكثر تأثيراً، وأكثر إقناعاً. لم تعد مجرّد رد فعل، بل أصبحت فاعلاً مركزياً في الصراع الإقليمي. حرب غزة لم تُضعف المقاومة بل رفعتها إلى مصاف القوى الإستراتيجية في المنطقة.
اليوم، ترفع غزة راية الصمود، وتخوض إيران معركة الكرامة، ويتكشّف فشل الاستعمار العسكري من مشارف البحر المتوسط إلى جبال زاغروس. ما يجمع بين طهران وغزة ليس تحالفاً سياسياً أو لوجستياً فقط، بل وحدة الموقف ضد مشروع كولونيالي خبيث يرى في الشعوب كائنات قابلة للبرمجة أو الإبادة.
لن تكون هذه الحرب هي الأخيرة، ولكن ما يتكشف فيها هو أن الإمبراطورية الأميركية، ومن خلفها مشروع الاستيطان الصهيوني، قد بلغا مرحلة من العجز البنيوي لا يمكن ترميمها بالدبابات أو بالطائرات. العالم يتغير. وشعوب المنطقة – من غزة إلى طهران – لم تعُد قابلة للتهديد، ولا للاحتواء، ولا للمحو.
في النهاية… إلى أين تتجه الأمور؟ ببساطة: نحن أمام نقطة تحوّل إستراتيجية، يمكن أن تُدخل المنطقة في حرب شاملة، أو تُجبر الولايات المتحدة على كبح إسرائيل واحتواء النار. فنتنياهو، الذي انتقل من مأزق غزة إلى مأزق طهران، يواجه الآن أوسع تهديد لسلطته ومستقبله السياسي. لم يعد قادراً على تبرير فشله المتراكم، ولم يعد يملك أوراق القوة التقليدية، بل بات رهينة داخل مربع مغلق: لا نصر في غزة، ولا نصر في إيران، ولا دعمَ دوليَّ ثابتاً، ولا إجماعَ داخلياً.
أمّا إيران، فنجحت في فرض معادلة ردع جديدة، وتثبيت نفسها كقوة إقليمية لا يُستهان بها، لا يمكن تجاوزها أو استفزازها بلا ثمن باهظ.
وفي ظل انكشاف الأكاذيب الغربية عن «القيم الإنسانية» و«التحضر»، وجرائم الحرب المستمرة في غزة، فإنّ الرأي العام العالمي بات أقرب لفهم الحقيقة، وأقرب لطرح السؤال الجوهري: من يهدّد العالم اليوم؟ المقاومة أم الاحتلال؟ إيران أم التحالف «الأميركي الإسرائيلي»؟ الجواب بات واضحاً.
* كاتب فلسطيني