بقلم: عصام الحلبي
في مجتمعاتنا، تُطلق صفة “متقاعد” على من بلغ الستين ، وكأن هذه الكلمة تعني الإقصاء أو الخروج من الزمن. بل وتُشحن أحيانًا بدلالات كأننا نتحدث عن من انتهت صلاحيته، أو من وجب تنحيته جانبًا، كمن يودّع الحياة المهنية إلى محطة انتظار “السفرة الأخيرة”. لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك، فالمتقاعدون ليسوا موتى مؤجلين، بل هم طاقات خامدة قسرًا، يمكن إعادة إحيائها بروح مختلفة ووسائل جديدة.
أكثر من مجرد أعمار زمنية
ليس كل من بلغ الستين قد أنهكته السنون، كما أن ليس كل من هو في الثلاثين أهل للقيادة أو العمل الإنتاجي. فالعمر الزمني لا يمكن أن يكون المعيار الوحيد للتقاعد. كثير من المتقاعدين هم أصحاب شهادات عليا، وتجارب مهنية وحياتية عميقة، ومهارات لا تكتسب إلا بالزمن والتجريب. هؤلاء، لو أُحسن توظيفهم، لأصبحوا خزّانات خبرة، ومرايا صافية تعكس للأجيال اللاحقة ما يجب أن يُحتذى أو يُتجنّب.
هل سن التقاعد منطقي وعادل؟
في وقتٍ تتجه فيه بعض الدول إلى رفع سن التقاعد إلى 65 بل وحتى 67 عامًا، لا يزال البعض يراه قيدًا واجب التنفيذ عند الستين. فهل من المنطقي أن نُقصي طبيبًا أو مهندسًا أو أستاذًا جامعيًا أو قائدًا سياسيًا في هذا السن، لمجرد بلوغه رقماً على الورق؟ هل نستغني عن عقل ناضج وخبرة ميدانية فقط لإرضاء مبدأ إفساح المجال للشباب؟
إن المسألة لا يجب أن تُقارب بهذه الطريقة. بل إن رفع سن التقاعد – خاصة في المهن التي لا تتطلب جهداً بدنياً شاقاً – يمكن أن يكون جزءًا من رؤية متوازنة تستفيد من العطاء المتراكم، وفي الوقت نفسه تؤهل الأجيال الجديدة دون صدمة انتقال فجائية.
بين التقاعد الفعلي وتقاعد الوظيفة
في المؤسسات النضالية والحركات الثورية، يصبح التقاعد أكثر حساسية. إذ يُنظر إليه غالبًا كفصل نهائي من دور المناضل، ولكن، أليس الأجدى أن نميّز بين التقاعد من الموقع التنفيذي، وبين التقاعد من النضال نفسه؟ أليس من المنصف أن يُخير المناضل بين الراحة أو المساهمة من موقع استشاري، أو ضمن هيئات تخطيط وتقييم ؟
إن التقاعد في هذا السياق يجب أن يكون انتقالاً لا إقصاءً، تحوّلاً في الأدوار لا خروجا من الساحة. فالمعركة التي تخوضها الحركات السياسية والاجتماعية لا تُربح بلا روافد الخبرة، ولا تُصان إن تُركت بالكامل للاندفاع غير المحسوب.
الانتقال التدريجي لا القفز الفجائي
ثمة حجة شائعة تقول إن التقاعد يتيح للشباب أخذ فرصتهم، وهذا منطقي في ظاهره. ولكن أي فرصة تُمنح لجيل شاب بلا تدريب أو تأهيل أو حتى تدرّج؟ واقع الساحة اللبنانية شاهد على فوضى الانتقالات الفجائية، حيث أُقصيت أسماء ذات وزن فجأة، وحلّت محلها وجوه غير ناضجة تنظيميًا، مما أدى إلى خلل في الأداء، وفقدان التوازن بين التاريخ والواقع.
إن الحل لا يكون بإقصاء جيل لصالح جيل آخر، بل في بناء جسور متينة بين الأجيال. فالقادة لا يصنعون في يوم وليلة، بل هم ثمرة تراكم واحتكاك وتجربة. لذلك، فالمسار الأفضل هو إشراك المتقاعدين في عملية التوريث القيادي، لا الاكتفاء بتوديعهم بعبارات الشكر.
أدوار جديدة لا نهاية الطريق
المتقاعدون ليسوا عالة، بل ثروة بشرية لا تُقدّر بثمن. يستطيعون أن يلعبوا أدوارًا محورية في التدريب، الإرشاد، التقييم، والاستشارة. كما يمكن إعادة دمجهم في مجالات جديدة تناسب قدراتهم، مثل التعليم، العمل المدني، المساهمة الفكرية، وحتى في العمل السياسي والتنظيمي.
إن إعادة تعريف التقاعد ليست مسألة بيروقراطية أو إدارية، بل رؤية مجتمعية وإنسانية وتنظيمية، تنظر إلى الإنسان كقيمة لا كرقم.
فالمتقاعد ليس من خرج من الزمن، بل من يستحق أن نعيده إلى قلب الحاضر… لأنه لا يزال قادرًا على أن يعطي.