في غرفة صغيرة من زوايا مستشفى الرنتيسي للأطفال، ترقد الطفلة سحر عوض الله، بجسد نحيل كأنه خرج للتو من فم المجاعة المفروضة من الاحتلال الإسرائيلي.
جسدها الصغير لا يتجاوز 20 كيلوغرامًا، وجفنها المنهك بالكاد يُفتح لترى الضوء، فيما يواصل قلبها الخافق بصعوبة صراع البقاء.
سحر (12 عامًا)، ابنة حي الشاطئ في غزة، لا تواجه مرضًا واحدًا، بل ثلاثة، كل منها كافٍ لتهديد الحياة بمفرده: التليّف الكيسي، السكري من النوع الأول، وسوء تغذية حاد، لكن أخطر ما تواجهه اليوم ليس المرض فقط، بل النسيان الكامل من العالم.
“بنتي تموت بالبطيء”
جلست والدتها، رزان عوض الله، إلى جانب سريرها في قسم الصدرية، تُمسك يدها الباردة وتتمتم: “قبل الحرب، كانت سحر تتحسن. كانت تاكل، تضحك، تركض، تحلم.. كانت بتقول بدها تصير دكتورة. اليوم، ما بتطلب شي غير مي وأكسجين”.
قبل أن تبدأ الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت سحر تتلقى رعاية غذائية وطبية دقيقة، وجبات عالية البروتين، أدوية يومية، جلسات تنفس، كل هذا تبخّر مع بدء القصف والنزوح.
خمس مرات نزحت العائلة، من الشاطئ إلى وسط القطاع ثم إلى خيام، ثم إلى ملاجئ، ثم عادت إلى ركام بيتٍ دُمّر جزئيًا. “كل تنقّل كأنه خطوة تجاه القبر لبنتي،” تقول الأم.
15 غيبوبة خلال شهر
بفعل غياب الغذاء المتوازن ودواء الأنسولين، تطور مرض سحر بشكل مرعب، خلال شهر واحد، دخلت في 15 غيبوبة سكرية، واحتاجت نقلًا عاجلًا للعيادات، في إحدى المرات، وصل معدل السكر في دمها إلى 500 ملغم/دل، وهو رقم يكاد يكون قاتلًا لطفلة بهذا الوزن والضعف.
“ما في أكل، بس رز وعدس وخبز، كلها نشويات، بنضطر نقلل الأنسولين، بس لما ما تاكل بتوقع، ولما تاكل السكر بيطير. أنا محتارة،” تشرح أمها وهي تضع يدها على جبينها.
حياة بين قنبلتين: الجوع والدواء
الدكتور عبد الله حسب الله، رئيس قسم الصدرية، وصف حالتها بـ”الحرجة”، “التليف الكيسي بحد ذاته مرض خطير. الجسم ما بيمتص الدهون والفيتامينات، فلازم تغذية مضاعفة. السكري بيزيد الطين بلّة، وسوء التغذية يهدد حياتها يوميًا. سحر مش بس مريضة.. سحر محاصَرة صحيا”.
لا يتوفر الطعام، ولا الدواء، ولا جهاز التبخيرة، ولا حتى أنبوبة أكسجين دائم، المستشفى يفعل ما بوسعه، لكنه بدوره ينهار، مثل باقي قطاع غزة.
تنتظر السفر منذ 9 أشهر
كان من المفترض أن تسافر سحر إلى الخارج للعلاج قبل 9 أشهر، لكن إغلاق المعابر حال دون ذلك. منذ ذلك الحين، تذوب أحلامها كل صباح، وتغفو وهي تأمل أن تُفتح بوابة الرحمة قبل أن يُغلق جسدها تمامًا.
“كل يوم بنتي بتموت شوي، وأنا بس بستنا الفرج. فيش جهة، لا عربية ولا دولية، سمعت صوتها. بدها علاج، بدها تاكل، بدها تتنفس، بس،” تقول أمها بصوت مخنوق.
ليست وحدها
ما تعيشه سحر اليوم هو نسخة مكررة من معاناة آلاف الأطفال في غزة، حيث الجوع سلاح ممنهج، والمعابر أبواب موصدة بوجه الحياة.
تقارير الأمم المتحدة تؤكد أن القطاع يعاني من انعدام شبه كامل للأمن الغذائي، في ظل سياسة صارمة تقيد دخول المساعدات الإنسانية.