آخر الأخبار

تأمّلات النصر والهزيمة

988556847d2972a1412207282d1aad9b1616492764

أحمد ضياء دردير

توقّف العدوان ولو مؤقتاً، وحافظت المقاومة على سلاحها وعتادها ووجودها. وبينما قد تكون حركة حماس قد اضطرت إلى التراجع عن بعض مطالبها الأولى (مثل تبييض السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين)، وبينما ما تزال المعركة مستمرة، وما يزال ضرباً من العبث أن نستعجل اختزال الوضع في مصطلحات النصر والهزيمة، فإنّ المقاومة لا شك منتصرة إلى الآن. ولا شك أن أهل غزة صمدوا وكتبوا ملحمة نادرة، وأنّ الناس فرحون بوقف الحرب ولا بدّ أن نفرح لفرحهم.

مشاهد الدمار وأخبار انتشار الجثث تدمي القلب، ومشاهد العائدين ترفع الرأس. ولا شك أن الوقوف عند فرحة النصر، بالذات بالنسبة إلينا نحن الذين نشاهد من بعيد، غير إنساني، كأننا نريد من أهل غزة أن يموتوا لنفرح أو نشعر بالفخر.

وغير إنساني كذلك ألا نفخر بما حققوه وبما يفتخرون هم به. الفرحة بالنصر لا ينتقص منها الألم من أجل من ماتوا أو جرحوا أو هجروا. أتذكّر ما قاله إبراهيم نصر الله على لسان «آمنة»: «وإن عشنا سأذكرك أننا سنبكي كثيراً بعد أن نتحرّر! سنبكي كل أولئك الذين كنا مضطرين أن نزغرد في جنازاتهم، سنبكي كما نشاء، ونفرح كما نشاء».

تضع المرحلة القادمة على العمل المقاوم أثقالاً جديدة: اتفاق الهدنة، محاولات فرض إدارة مدنية وعسكرية دولية، المزيد من التواطؤ العربي لنزع سلاح المقاومة وتصفيتها، مشاريع «إعادة إعمار» دولية وعربية تهدف إلى خنق المقاومة، وربما دور متزايد للعملاء المحليين. كل هذه قد تكون عوامل تفجير تعطي المقاومة الحرية للعمل على كل الجبهات (كما حدث في لبنان في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي)، وقد تصبح عراقيل أمام العمل المقاوم أو تشتت حركة حماس في ألف معركة سياسية وإدارية وعسكرية.

معركة الإدارة المدنية والعسكرية قادمة لا محالة (والسؤال هو إلى أي مدى وأي الأشكال ستأخذ، لا إن كانت قادمة أم لا). خطة ترامب تشبه إلى حد كبير (مع اختلاف السياق والأشخاص) خطة فيليب حبيب عام 1982؛ وبينما لا يعني هذا بالضرورة أنه على غزة أن تقاوم الآن بالطريقة نفسها التي قاومت بها بيروت آنئذٍ، فإنّ الخطة تفرض معارك مشابهة.

ما تزال الإمبريالية تريد رحيل حكومة حماس وما تزال تجد العملاء المحليين، من عباس في الضفة إلى أبي الشباب في غزة إلى ظواهر شبيهة، وما تزال هناك جهات دولية تريد تأمين الغطاء العسكري والديبلوماسي لهذه الخطط الإمبريالية، وما تزال حركة حماس قادرة على البقاء والصمود.

هذه المعركة لا تنفصل كذلك عن معركة إعادة الإعمار: معركة الجهد البشري من أجل إعادة بناء ما تهدّم ترتبط بالمعركة السياسية والميدانية حول الحصار وإدخال مواد البناء. ثم هناك معركة على مستوى أعمق على شكل إعادة الإعمار ومخططات إسرائيل وأميركا وبعض العرب لإعادة تخطيط غزة بشكل يعيق العمل المقاوم ويضمن رقابة الاحتلال.

هناك دون ذلك المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي نفسه؛ ما تزال هناك محاور عدة لم ينسحب منها جيش الاحتلال حتى كتابة هذه السطور (جنوب خان يونس وبيت حانون وبيت لاهيا ورفح وجحر الديك وحي الشجاعية).

وسواء قررت المقاومة التصعيد حتى إخراج هؤلاء الجنود أو أصبح وجودهم أمراً واقعاً، فإنّ وجودهم يبقى من العناصر المفجّرة لأي معركة قادمة.

يضاف إلى ذلك السؤال إذا ما كانت إسرائيل تنوي العودة إلى سياستها في الاستهداف الدوري للرؤوس العسكرية والسياسية للمقاومة (ما يسميه العدو بسياسة «جزّ العشب») وإن كان «الطوفان» قد أثبت قوّة ردع أمام مثل هذه العمليات تصبح معها العودة إلى هذه السياسة نوعاً من الحماقة، فإنّ دولة العدو، ورئيس وزرائها الحالي بالذات، قد أثبتا القدرة على ارتكاب الحماقات، ما يجعل رد المقاومة حتمياً.

ما عانته غزة سيجعل الاستمرار في النوع نفسه من المقاومة مؤلماً. قد تفاجِئنا المقاومة برشقة صواريخ أو بعملية تسلل واقتحام جديدة وقد لا تفعل، وقد تفاجئنا غزة بصمود جديد وقد لا تفعل، والحق معهما إن فعلتا أم لم تفعلا. واجبنا بطبيعة الحال هو الدعم والتأييد إن فعلتا؛ ولكن واجبنا كذلك السؤال «ما العمل» إن لم تفعلا؟

الهدف من هذا الكلام ليس مجرد تقديم «جردة حساب» بالمعارك التي قد تجد المقاومة في غزة نفسها أمامها. الأهم هو التذكير بأن هناك معارك تستطيع المقاومة في غزة أن تتصدّى لها، وهناك معارك أصبحت كلفتها مؤلمة، وليس عدلاً أن نترك غزة تتصدّى لها وحدها ـــــ وإن كانت حماس وسائر الفصائل قادرة عليها ـــــ، وهناك معارك تتعدّى حدود غزة وتدور في ساحة دولية إمبريالية.

وسواء أثبتت حركة حماس قدرتها على ابتكار أساليب جديدة للمقاومة أو انكفأت إلى دور دفاعي منوط بحماية القطاع (وهو دور ضروري ومشرف في حد ذاته)، يبقى على الأمة بأسرها أن تبتكر سبلاً جديدة للنضال، «لا أدري بعد ما هي، ولكنها ستجعل العالم يقف على رجل واحدة» (من شكسبير بتصرّف، وبالإذن من «أبو عبيدة»).

* باحث عربي من مصر

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة