آخر الأخبار

ماجد أبو شرار وخبزنا المرّ

Majid_Abu_Sharar_mural-Dura_01 (1)

حسام أبو حامد

وُلد ماجد أبو شرار في لحظة كانت فيها فلسطين قد بدأت تتحوّل من وطنٍ مأهولٍ بالذاكرة إلى منفى مفتوح على رياح النسيان. في قريته دورا (قضاء الخليل) عام 1936. وُلد ومعه سؤال المعنى في أرضٍ بدأت تُسلب هويتها شبراً شبراً. لم تكن نكبة 1948 حدثاً سياسياً في وعيه، بل لحظة تأسيس وجوديٍّ جعلته يرى أن الكلمة ليست ترفاً أدبياً، بل سلاح يُشهر في وجه المحو. ومنذ سنوات دراسته الحقوق في جامعة الإسكندرية (أواخر الخمسينيّات) اقتنع أنّ الفلسطيني لا يملك ترف الفصل بين الفكر والسياسة، وأنّ الوعي هو الشكل الأول للمقاومة، فانخرط في الحركات الطلابية القومية، وكتب مبكّراً قصصاً قصيرة، تستعيد تفاصيل الناس العاديين، الذين تحوّلوا أبطالاً صامتين في مواجهة الفقر والمنفى والظلم.
بدأ ماجد أبو شرار مسيرته المهنيّة معلّماً في مدرسةٍ في قضاء الكرك (الأردن)، ثم مديراً لها. سافر إلى الدمام (السعودية) ليدير صحيفته (الأيام) معبّراً من خلالها عن آرائه السياسية. ولم يتحوّل بانضمامه إلى حركة فتح (1962) بيروقراطياً سياسياً، وإنما جعل من الأدب أداةَ تحريض، ووعياً جمعياً، وهو الذي كان يرى أنّ الثورة بلا فكر تتحوّل فوضى، وأنّ الفكر بلا ثورة هو تمرين لغوي. فسعى في إطار مؤسّسات منظمة التحرير إلى تأسيس إعلامٍ فلسطينيّ حرّ، يوازي البندقية قيمةً، ويخاطب العالم، لا بلغة الشعارات، بل بلغة الحقيقة. أسّس خطاباً جديداً قوامه “الثقافة المقاومة”، تلك الثقافة التي لا تنفصل عن المعركة اليومية ضدّ النسيان.
كان ماجد أبو شرار ساخراً في كتاباته السياسية، ولعلّ قلةً منا يتذكّرون مقالاته في صحيفة فتح (ترأس تحريرها)، تحديداً في زاويته التي اختار لها عنواناً ثابتاً: “جدّاً”، فكتب: “صحفي أمين جداً” و”واحد غزاوي جداً” و”شخصية وقحة جداً” ونحوها. ولا تُختزل “الخبز المرّ” (1980)، وهي مجموعته القصصية الوحيدة، في نصوص سردية، بل هي سيرة جماعية للفلسطينيين المقهورين أبطال القدرة على البقاء. فيها يتحوّل اليوميّ ملحمةً، والفقر لغةَ مقاومةٍ، ويصبح الحنين سلاحاً ضدّ الطمس. لا تبحث شخصيات قصصه عن نصر، بل عن معنى للحياة وسط الركام. إنها تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ”الإنسان الفلسطيني الرمزي”، كائن يواجه الجوع بالخُبز، لكنّ الخبز مرّ لأنّ الحياة نفسها مسمومة بالاحتلال والمنفى. أسلوبه واقعي مكثّف، مقتصد في الزخرفة، أقرب إلى النبض الصحافي منه إلى الترف الأدبي. لكنّه في الوقت نفسه يحمل شاعرية المنفى.
أدرك أبو شرّار أنّ الثورة الفلسطينية، وقد بدأت تترّهل في مؤسّساتها خلال السبعينيّات، مُهدَّدة بأن تفقد روحها الأولى، فدعا إلى أن تكون الثقافة جدار الوعي ضدّ الانحراف، وأن يُعاد النظر في مفهوم “المناضل” بوصفه أيضاً حاملًا لفكرة، لا سلاحاً فحسب، وأسّس عام 1969 مدرسة الكوادر الثورية في قوات العاصفة، لتخرّج فيها “مناضلين مثقفين”، لا مجرّد مناضلين مقاتلين.
بعد انتقاله إلى أوروبا لتأسيس إعلام فلسطيني خارجي يخاطب الرأي العام الغربي، أصبح هدفاً مباشراً للموساد الإسرائيلي. كانت روما محطّته الأخيرة، واغتيل في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 1981 في واحد من فنادقها، بقنبلة زرعت في غرفته. كان اغتياله ضربة لإعلام الثورة، ورسالة إسرائيلية أن الكلمة بخطورة الرصاصة.
بقي أبو شرار في الذاكرة رمزاً للمثقف العضوي، الذي لم يكتب عن الفقراء من برجٍ عاجي، بل من الأزقّة التي كان يمرّ بها يومياً، ومن جبهات المواجهة مع الاحتلال. لم تكن “الخبز المرّ” مجرّد عنوان أدبي، بل وصية وطنية تقول: إن الخبز سيظلّ مرّاً ما دامت الحرّية ناقصة. واليوم، بعد أكثر من أربعة عقود على اغتياله في روما، ما زال ظلّ ماجد أبو شرّار يمشي بيننا: في كلّ كاتبٍ يرى في الكلمة فعلاً مقاوماً، وفي كلّ فلسطينيٍّ يصرّ على أن يحيا رغم النفي والجوع. عاد “الخبز المرّ” الذي كتب عنه في نبوءةً مبكّرة، ليصير عنواناً لجيلٍ جديدٍ يخبز كرامته تحت القصف. في غزّة، التي تعيد إنتاج المعنى كلّ يوم من تحت الركام، تتجلّى رسالته من جديد: قد تُغتال الأجساد، لكنّ الفكرة لا تموت، والذاكرة التي حماها أبو شرار ستبقى خبز الفلسطينيّ الأخير، وخبز حريّته المقبلة.

دلالات

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة