غازي العريضي
بعد دعم أميركي مفتوح دام سنتَين، قُدّمت بموجبه عشرات مليارات الدولارات ثمن أسلحة نوعية متطوّرة لتشنّ إسرائيل حرب الإبادة ضدّ الفلسطينيين في غزّة، ولتوسّع دائرة عدوانها على لبنان وسورية وإيران والعراق واليمن، خرج الرئيس ترامب صاحب مشروع الـ”ريفييرا” في غزّة بعد تهجير أهلها، وشريك نتنياهو في أهدافه، ليعلن ضرورةَ وقف الحرب، مكرّراً: “لقد أنهيت ستّ حروب”. ثمّ مع إعلان اتفاق غزّة، قال: “أنهيت سبع حروب، ويجب تكريس السلام”. كان يعدّ نفسه لجائزة نوبل للسلام ففشل في الحصول عليها، وعبّر عن غضبه، وأقصى ما فعله تحقيق وقف لإطلاق النار هنا وهناك، من دون أن تحترم إسرائيل أيّاً منها، بل يعلن قادتها إصرارهم على استكمال مشروعهم. لماذا وقف النار إذاً في غزّة، وهذا الحديث عن السلام؟
“لم يُنهِ ترامب الحروب، ولم يحقّق السلام، ولم ينل جائزة نوبل للسلام
“نوبل” أولاً. سقطت الجائزة وسقط حلم ترامب فيها. ثانياً، فكّ العزلة عن إسرائيل. فإذا كان نتنياهو قد تجرّع سمّ الموافقة على الاتفاق، ومعه عدة وزراء في حكومته، فإنهم لم يتراجعوا بالتأكيد عن أهداف حربهم المُعلَنة، ولكنّهم باتوا غير قادرين على استكمالها حالياً. خطوة ترامب هدنة تعالج المشكلات التي واجهتها إسرائيل، رغم مكابرة نتنياهو وقوله “حماس وافقت على الاتفاق بعدما أدركت أن السكّين على رقبتها”. صحيح أن “حماس” لم تكن في وضع مريح، وصحيح أن الشعب الفلسطيني كان يعيش حالةً مأساويةً كارثيةً ويتعرّض لحملة إبادة جماعية بكل آلات القتل الأميركية الإسرائيلية والتجويع من دون محرّمات، لكن ترامب أعلن بوضوح: “قلت لنتنياهو إسرائيل لا يمكنها أن تحارب العالم. الأهم أن الجميع سيحبّونها بعد الاتفاق”.
أليس في ذلك اعتراف بالطوق الذي يلتفّ بقوة حول إسرائيل على المستوى العالمي، وهذا أحد أسباب الوصول إلى اتفاق، ويستند بشكل أساس إلى صبر وعناد وإرادة الشعب الفلسطيني تمسّكاً بأرضه، حتى لو فرضت عليه الإقامة في خيام، الأمر الذي دفع العالم كلّه، ومسؤولين إسرائيليين لهم تاريخهم في الإرهاب والإجرام والقتل والتهجير والاستيطان في الأرض الفلسطينية، إلى المطالبة بوقف الحرب، والتحذير من أن إسرائيل أصبحت “دولةً منبوذةً”، وأن العداء لها غير مسبوق، والعالم ضدّها، وأطلقوا اتهاماتٍ ضدّ نتنياهو وهوسه بالإرهاب المفتوح. قال بعضهم: “إسرائيل نازية جديدة”، والحاخام إسحق بريتويتز أعلن بوضوح: “مستحيل هزيمة أبناء إسماعيل بالضربة العسكرية، لأنهم لا يهابون الموت، هم مستعدّون له من أجل إرضاء ربّهم. هم الأكثر صعوبة. نحتاج إلى قوة روحية أقوى من تلك التي يمتلكونها. لديهم قوة الصلاة”.
نتنياهو في ورطة، رغم أنه قادر لاحقاً على إكمال الحرب، ولا أحد يقف في وجهه، لكن العالم بات ضدّه. يريد ترامب السلام و”نوبل”. العرب الإبراهيميون في مأزق، إسرائيل لا تحترمهم، لا توفّرهم، تضربهم، تهدّدهم وترهبهم، تبتزّهم من العراق إلى اليمن، وتريد تدفيعهم الثمن لأنها “مخلّصتهم من أعدائهم”، والعرب السائرون نحو الإبراهيمية، والذين يلتقون الإسرائيليين سرّاً في أكثر من مكان في ورطة أيضاً، والحمل الفلسطيني ثقيل في وجه الجميع. الدم الفلسطيني فرض نفسه، والصبر الفلسطيني أقوى من كل الأنظمة والأسلحة والتكنولوجيا. الجوع الفلسطيني الذي فرضه الإسرائيليون أسقط كل شهواتهم ونزواتهم. كان لا بدّ من خطوة، لا بدّ من هدنة، فجاء الاتفاق. لم يُنه ترامب الحروب، ولم يحقّق السلام، ولم ينل جائزة نوبل للسلام. وقلت سابقاً: “إذا نالها مشكلة وإذا لم ينلها مشكلة”، ولذلك يسعى إلى هدنة، إلى وقف نار. ولكن هل تخلّى عن شراكته مع نتنياهو في تقرير مصير غزّة وفلسطين؟ هل تخلّى عن “مهمّته الروحية” و”الرسالة الإلهية” المكلّف بها؟ هل تخلّى عن حلم “إسرائيل الكبرى”؟ ولماذا؟ هل بات العرب أكثر قوة وصلابة ووعياً وإدراكاً لمكائده وإرهابه؟… ليس ثمّة شيء من ذلك. عوّدتنا إسرائيل بتاريخها كيف تُسقط الاتفاقات وكيف تقتل رموز السلام الحقيقيين، أو الذين يريدون الوصول إلى اتفاقاتٍ ولو في ظلّ معادلات ليست لمصلحتهم.
المسؤولية اليوم أكثر من أي وقت مضى فلسطينية، من أجل حدّ أدنى من التوافق والوحدة الوطنية
وعندما يقول ترامب: “لولا ضرب إيران لما وصلنا إلى اتفاق غزّة”، ويتناغم (ويتكامل) معه نتنياهو عندما يقول: “نخوض حروباً في جبهاتٍ متعدّدة. نحن الأقوى. نحن نحكم العالم”. فلماذا يتوقّف؟ لا آمال في صدق مواقفهم المُعلَنة وجنوحهم نحو السلام الحقيقي الذي له مفهوم واحد: “دولة فلسطينية مستقلّة” في أرض فلسطين يدير شؤونها فلسطينيون. أمّا ما يقدّمونه الآن فهو إدارة دولية إقليمية لشؤون دولة أُعلنت في الأمم المتحدة من دون مهلة زمنية لقيامها ورسم حدودها، فأين هذه الدولة والشخصية الفلسطينية المعنوية السياسية الدبلوماسية الرسمية التي تشرف عليها؟
المسؤولية اليوم أكثر من أي وقت مضى فلسطينية، باستفادة الجميع من الهدنة للعمل من أجل حدّ أدنى من التوافق والوحدة الوطنية، وفاءً لدماء الشهداء وضماناً لمستقبل أبنائهم وحقّهم في تقرير مصيرهم في أرضهم. وإلى جانب ذلك مسؤولية عربية: شيء من الوعي لخطر المشروع الإسرائيلي القائم على معادلة: الأرض لنا. والسلام لنا. والسلام عليكم يا عرب. وشيء من الكرامة والهيبة في مواجهته إذا كان ثمّة إرادة مواجهة بعد الذي حصل كلّه.