أسعد أبو خليل
حزب الله عشيّة حرب الإسناد (3)
خامساً، مضاعفات 7 أيّار: مؤامرة 5 أيّار كانت مِن صنْع إسرائيل وإنْ كان التنفيذ لبنانيّاً. كيف أنّ وزراء فتحوا المعركة على شبكة اتّصالات الحزب، وهي لا هدف لها إلّا التواصل بعيداً من أعْين إسرائيل وأسماعها في الحرب. كيف أزعجت هذه الشبكة وزراء ونوّاباً من لبنان؟ تضايقوا من خرْق السيادة وهم من الذين قدّموا لديبلوماسيّين أميركيّين في «ويكيليكس» محاضر اجتماعات مجلس الوزراء (وكان بعضهم يقدّم تقارير للمخابرات السوريّة من قبل)؟ هؤلاء الوزراء كانوا يقولون: علينا ألّا نمنع إسرائيل من مراقبة كلّ أجهزة الاتّصالات ورصْدها في لبنان.
7 أيّار كانت ردّ فعل على مؤامرة إسرائيليّة من داخل النظام، والنظام الذي تمثّل فيه الحزب لم يستطع أن يصدّ المؤامرة. الحزب وجد أنّ الحلّ الوحيد يكمن في الصدّ من خارج النظام وفي الشارع. وهذا ما كان. ونصرالله يوم 7 أيّار أعلن، بكلّ حُسن نيّة، وأْد الفتنة السنيّة-الشيعيّة وهي كانت ستأخذ بعد هذا اليوم طَوراً أشدّ قسوة وعنفاً واستعاراً. طوّرت أنظمة الخليج خطاباً وفكراً فتنويّاً يخدم مصلحة إسرائيل التي كانت تحضّر معركةً متعدّدة الأوجه والجبهات للثأر من هزيمتها في حرب تمّوز. كان على الحزب أن يهتمّ أكثر بشبكة الاتّصالات وأن يرى أنّ الشبكة تلك (التي حمل مروان حمادة خريطة شبكتها لسفارة واحدة على الأقل، حسب «ويكيليكس») لا تقلّ أهميّةً عن السّلاح في معركة الردْع والدفاع عن لبنان.
هل أنّ الحزب وعى أنّ النظام اللّبناني مخترَق مِن قِبل إسرائيل في ذلك اليوم؟ ليس ما يشير إلى ذلك، خصوصاً أنّ علاقات ودّية سرعان ما جمعَته مع بعض هؤلاء الوزراء. لو أنّ الحزب لمسَ فوراً أنّ إسرائيل ترى شبكة الاتّصالات الخاصّة بالحزب أكبر خطر عليها، كان يمكن للحزب الذي حمى الشبكة ـــــ لكن بعد أن تسرّبت خريطتها إلى العدو ـــــ أن يفكّر مذّاك في إيجاد بدائل جديدة ومتعدّدة ومتكرّرة. هذه كانت ستحلّ الكثير من المشكلات التي تسبّبت في كارثة في الحرب الأخيرة.
إذا كانت إسرائيل قد فجّرت الحكومة لتعطيل شبكة اتّصالات الحزب، فهذا يعني أنّ سلاح الإشارة هو الأولويّة القصوى. مشكلة البايجر هي نتيجة اختراق الشبكة الأرضية والتي ـــــ رغم انكشاف اختراقها بعد وقت قليل من حرب الإسناد ـــــ بقيت مُستعمَلة بين أعضاء الحزب وقياداته، بناء على حديث إعلامي لنواف الموسوي وغيره.
إنّ أهمية شبكة الاتّصالات تكمن في صُلْب أمْن المقاومة. الحزب فشل في حماية الشبكة وفشل في احتواء الفتنة المذهبيّة التي أطلقها النظام الخليجي الإقليمي بعد 7 أيّار. الحزب لم ينجح في تسوية العلاقات السُّنيّة-الشيعيّة وربّما رأى أنّ الأمر خارج عن السيطرة. الحلفاء السُّنة للحزب تباعدوا تِباعاً. 7 أيّار شكّلت عبئاً ثقيلاً على الحزب من نواحٍ متعدّدة، وهي فتحت الطريق للعدوّ لترصّد كلّ وسائل اتّصال الحزب، السرّية وشبه السرّية.
سادساً، الانهيار المصرفي: تعامل الحزب مع الانهيار ومع الانتفاضة (التي بدأت عفويّة باعتراف نصرالله) بطريقة ضمِنت انخراط الحزب التامّ والكامل في الدولة اللّبنانية وفسادها. أصبح الطرف الذي لا يمكن تحييده كما كان الأمر قبل اغتيال الحريري. دخل الحزب في السلطة وبقوّة، وعندما أصبح ميشال عون رئيساً زاد من ضلوعه في الدولة بمؤسّساتها كافّة وأصبح طرفاً رديفاً لـ«أمل» في المحاصصة.
في 2015، وجد كثيرون (وأنا منهم) شعار «كلّهم يعني كلّهم» نافراً لأنّ الحزب كان الطرف الأقلّ استفادة من الدولة ومن مغانمها، لكن بحلول عام 2019 وما بعد، أصبحت عمليّة فصْل الحزب عن فساد النظام عمليّة مستحيلة ومغلوطة. لماذا يُنزَّه الحزب وهو شريك أساسي في صنْع القرارات في الدولة؟ كان هو يؤدّي دوراً رئيسياً في اختيار رئيس مجلس الوزراء ورئيس الجمهوريّة وعدد من الوزراء.
أعضاء في الحزب انتشروا في الدولة تماماً مثل باقي الأحزاب المتَّهمة بالفساد بسبب مشاركتها في السلطة وقراراتها. الحزب لم يطالب يوماً بإقصاء رياض سلامة مثلاً. الحزب كان مثله مثل كلّ الأحزاب مستفيداً من نظام رياض سلامة الفاسد، والذي اعتمد على سرقة أموال الشعب اللّبناني.
7 أيّار شكّلت عبئاً ثقيلاً على الحزب من نواحٍ متعدّدة، وهي فتحت الطريق للعدوّ لترصّد كلّ وسائل اتّصال الحزب، السرّية وشبه السرّية
الحزب تطوّع بعد 2019 لحماية النظام، وبالقوّة في بعض الأحيان كما جرى في مواجهة بعض المتظاهرين في الجنوب وفي غيرها من المناطق. جمهور الحزب نزلوا إلى الشوارع في الأيام الأولى للانتفاضة وبرّأ أمين عام الحزب المتظاهرين الأوائل من أجندات السفارات في خطابه الأول بعد الانتفاضة. لكنّ الحزب لم يأخذ الانتفاضة بجدّية ومستشارو نصرالله الاقتصاديّون والسياسيّون أساؤوا إليه كثيراً في عدم تقديمهم له صورة كاملة للوضع الاقتصادي ومضاعفاته.
مِن المُجحِف أن نتوقّع أن يكون نصرالله خبيراً في كلّ الشؤون: لكنّه برّأ المصارف من المسؤوليّة وكرّرَ أنّ الودائع موجودة في الخارج لكنّ أميركا تمنع عودتها. هذه الصورة (البعيدة من الواقع) برّأت المصارف المجرمة وجعلت من أميركا ـــــ لا المصارف ـــــ الخاطفة لأموال الناس (طبعاً، أميركا شريكة مع الفاسدين في لبنان وهي قريبة جدّاً من كبار المصرفيّين مثل أنطون صحناوي ومن غيره أيضاً).
الرؤية الاقتصادية للحزب لم تكن يوماً رؤية تقدّمية، بل هي تعايشت مع السياسات الرأسماليّة المتوحّشة وإنْ كان نوّابها يتحفّظون على بعض السياسات من دون إبداء معارضة فاعلة. لم يطرح الحزب أيّ فكرة أو حلّ لأموال المودعين المُبدَّدة. على العكس، شارك في السياسات التي غطّت وحمت المصارف من المحاسبة. كبرت الهوّة بين الحزب والفقراء (من خارج الوسط الشيعي) وسهّلت عمليّة لَوم الحزب. الحزب الذي بدأ عمله السياسي كرمز لمعارضة النظام أصبح رمز الدفاع عن النظام. خاف الحزب من الفوضى، لكنّ النظام أضرّ بالحزب أكثر من الفوضى، وبعض الوزراء استخدموا وزاراتهم لمحاربة الحزب بالنيابة عن الدول المتحالفة مع إسرائيل.
سابعاً، المرفأ ومضاعفاته: كان انفجار المرفأ حدثاً خطيراً زاد من معاناة اللّبنانيّين. وهو تلا كارثة انهيار المصارف التي شاركت الدولة بأطيافها كافّة في إنقاذها من العدالة ومن غضب الناس. (الدولة لا تزال تمارس الحماية والتغطية الكاملة للمصارف التي سمحت لكبار الأثرياء من السياسيّين ورجال الدين والإعلاميّين بتهريب أموالهم). سببُ انفجار المرفأ هو على الأرجح نتيجة حادث غير مُدبَّر وليس نتيجة مؤامرة مفتعلة. كان الأميركيّون على عِلم بالمتفجّرات قبل الانفجار وهم لم يُعلموا حكومة لبنان بمضمون تقرير لمتعاقد عسكري أميركي جال في أنحاء المرفأ (قبل أربع سنوات من الانفجار، بحسب «نيويورك تايمز») وكتب لحكومته عن المتفجّرات.
أميركا التي لا تترك مناسبة وتتّهم الحزب بكلّ ما يجري من جرائم، تمنّعت عن اتّهام الحزب لأنْ لا علاقة للحزب (الحزب الذي لديه من المخابئ تحت الأرض لحماية صواريخ بالغة الخطورة لم يجد إلّا مكاناً عامّاً لإخفاء متفجّرات؟ سيناريو اتّهام الحزب شديد الغباء لكنّ حلفاء إسرائيل في لبنان متفرّغون -وظيفيّاً- لاتّهام الحزب بكلّ الموبقات).
وسام الحسن، وغيره في الدولة، كانوا ضالعين في تهريب السلاح إلى سوريا ولعلّ المتفجّرات كانت من تلك الحقبة الحماسيّة (لا يمكن الجزم). هذا لا يعفي الدولة من المسؤوليّة الجُرميّة: التجاهل والإهمال والتقصير الجرمي تحديداً. الحزب لم يتفهّم معاناة الناس ولم يُبدِ تعاطفاً، وكان يجب أن يسهم في إجراء التحقيق. لكنّ الحزب أصرّ على التحالف مع المتّهمين (بالتقصير) من حلفائه. وضع نفسه في قفص الاتّهام بالقوّة ولم يكن اسم أيّ من وزرائه وارداً فيها.
ثمّ قَبِلَ أن يشارك في مظاهرة الطيّونة المشؤومة حيث قُتل أبرياء. هذه الواقعة (ماذا كان الهدف من تلك المظاهرة في الطيونة على تخوم منطقة شهدت ولادة الحرب الأهليّة اللّبنانيّة؟ ألم ترَ قيادة الحزب قصْر النظر في اختيار المكان والزمان والعنوان؟) مسؤولة عن تحويل سمير جعجع إلى الزعيم المسيحي الأوّل (وهو لا يزال في هذه المرتبة بسبب الطيّونة). شعر المسيحيّون بالخطر، ومعهم الحقّ كلّه في ذلك لأنّ تلك المظاهرة كانت استفزازيّة جداً. هذه كانت من ضمن سلسلة من أخطاء وقع فيها الحزب وهي خلقت سياقاً ضارّاً بمصلحة الحزب.
ثم زاد الحزب الوضع سوءاً (بالنسبة إلى مصلحته) عندما تفوّه مسؤول أمني في الحزب (أمام صحافيّة معادية للحزب) بالعبارة الشهيرة عن «قبع» القاضي بيطار. هذه العبارة أصبحت عنوان التكبّر والعنجهيّة التي طبعت صورة الحزب عند أعدائه. والعبارة لا يمكن فهْمها في أيّ سياق. والحزب لم يشرح العبارة ولم يعتذر عنها ولم يفسّرها. مرّت كما كانت تمرّ أخطاء للحزب. ولماذا شنّ الحزب تلك الحملة ضدّ القاضي بيطار رغم دلائل عن علاقة تحقيقه وعلاقته شخصيّاً كقاضٍ بوفود وسفارات غربيّة؟ لماذا قرّرَ أن يقود الحملة تلك فيما لم تقُدِ الحملةَ أحزابٌ فيها متّهمون رسميّون؟
ثامناً، فكّ التحالف مع التيار الوطني الحرّ: كتبتُ الكثير في حينه وعبّرْت عن دهشتي من استهتار الحزب بمآل تحالفه مع التيّار. صحيح أنّ علاقة جبران باسيل مع نبيه برّي كانت سيّئة وأنّ الحزب كان (ولا يزال) يفضّل تحالفه مع أمل على أيّ تحالف آخر لأمور تتعلّق بسلامة الأخوّة في الساحة الشيعيّة، لكنْ: لماذا لم يسعَ الحزب أكثر لإصلاح العلاقة بين الحليفَين ولماذا لم يتّعظ الحزب من إصدارات «ويكيليكس» والتي أظهرت أنّ التيار كان أوفى حليف له في مرحلة صعبة تعرّض فيها التيار لضغوطات صهيونية أميركية هائلة لفكّ التحالف مع الحزب.
بصرْف النظر عن الاتّجاهات اليمينية والانعزاليّة والفينيقيّة في قيادة التيّار، فإنّ التحالف أو التفاهم بين الحزب والتيار كان من أهمّ التحالفات العابرة للطوائف منذ الاستقلال. هذا كان التفاهم الوحيد الذي كرّس ترجمة على الأرض: جمهور الشيعة تعرّفوا للمرّة الأولى إلى جمهور مسيحي، والعكس صحيح. تمّ توطيد علاقة بين قاعدة الطرفَين وعمل التيّار على بثّ ثقافة معادية لإسرائيل للمرّة الأولى في بعض المناطق.
كيف يمكن ألّا يعي الحزب أهميّة التحالف بعد أن كان التيّار شديد الوفاء للحزب خصوصاً في حرب تمّوز، وهي كانت التحدّي الأبرز. آخر ما كتبه لي أنيس النقاش كان التمنّي مِن قبْل عليّ أن أخفّف على جبران باسيل لأنّه -حسب النقاش- قاوم كلّ الضغوطات الأميركيّة الجائرة ولم يقبل أن يخون حليفه المقاوِم. أن يشنّ الحزب حرب الإسناد من دون وجود ظهير يتجسّد بالتيّار كان خطأ إستراتيجيّاً. التيّار أدّى دوراً بالغ الأهميّة في حرب تمّوز، والحزب يعلم عن ذلك أكثر منّي بكثير.
(يتبع)