آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [14]

212

أسعد أبو خليل

حزب الله عشيّة حرب الإسناد (4)

تاسعاً، الحرب على المِثليّة: لا نستطيع أن نفصل السياق السياسي الذي سبق حرب الإسناد من الحرب الوحشيّة ومجرياتها. لم تكن المقاومة معزولة سياسيّاً وشعبيّاً منذ أوائل الثمانينيات كما كانت في المرحلة التي سبقت والتي عاصرت الحرب الأخيرة.
في الثمانينيات، كان هناك تعاطف يساري تقدّمي مع المقاومة رغم حساسيات مرحلة اشتباكات «أمل» واليسار الشيوعي اللّبناني. لكنْ في هذه المرحلة، غاب اليسار واللّومُ في هذا لا يقع على الحزب بل على اليسار نفسه الذي ارتضى أن يتحوّل إلى مجرّد تنظيم من جمعيّات الـ«إن جي أوز» ولا يجد هذا اليسار غضاضة في تنسيق شؤون الثورة والتغيير مع… سامي الجميّل وأمثاله. اليسار هو الذي نبذَ المقاومة لا العكس.
ثمّ: إنّ الحزب كان أكثرَ رجعيّةً ودينيةً وتزمّتاً في مرحلة الثمانينيات (في مرحلة الطفيلي) ولم يكن الشيوعيون يومها يخجلون من المجاهرة بتأييد عمليّات المقاومة. حنا غريب (كِدنا ننسى أنّه زعيم الحزب الشيوعي في كلّ مرحلة الحرب الأخيرة، إلى أنْ رأيناه في صور استقبال جورج إبراهيم عبدالله الذي انتمى إلى تنظيمات نفرت من اليسار الشيوعي التقليدي، ومن الحزب الشيوعي اللّبناني تحديداً قبل أن يتحوّل يمنةً) اضطرَّ إلى محو كلام له على المواقع في تأييد المقاومة. لكنّ الحزب تقوقع طائفيّاً ومراجعة المرحلة التي سبقت تسمح بتسجيل ملاحظات على سلوك الحزب السياسي.
الحزب مثلاً قرّر، وعلى لسان زعيمه، شنّ حرب شعواء ضدّ المثليّة وضدّ «تصديرها» إلى لبنان. ووصف نصرالله في عام 2023 المثليّة بأنّها «الخطر الداهم» وأنّ عقوبة القتل ضدّ المثليّين سارية أو يجب أن تكون سارية. وهو خصّص خطابَين للموضوع. وسبب الحملة وتوقيتها غير معروف وإنْ كان هناك حركة عالمية (يمينيّة ودينيّة في غالبها) ضدّ فرْض قيَم اللّيبراليّة الغربيّة على المجتمعات. هل أنّ الحزب دخل في الحرب العالمية ضدّ «ووكيزم»، أو حركة فرْض القيم اللّيبرالية على الحياة الشخصيّة؟ لا نستطيع أن نقول إنّ عام 2023 شهدَ هجمة مثليّة ضخمة من دول الغرب أو إنّ عدد المثليّين (يصف أعداء المثليّة حول العالم المثليّين بـ«الشاذّين»، والكلمة تحقيريّة طبعاً) زادَ بصورة مطّردة. هناك أسباب دفعت الحزب كي يشنّ هذه الحملة لكنّني أجهلها.
يمكن القول إنّ الحملة نفّرت جمهور اللّيبراليّين والجمعيات المموَّلة من الغرب والتي لا تنتقي الأجندات الاجتماعيّة إلّا بالأمر التمويلي الخارجي. وهذا الجمهور اللّيبرالي هو معادٍ أصلاً للحزب. لكن: «الخطر الداهم» عن المثليّة؟ هل هناك من خطر يصحُّ وصْفه بالداهم غير الخطر الإسرائيلي؟ هل أنّ الحملة دليل أنّ الحزب تراخى في تركيزه الحاد والأساسي عن الخطر الصهيوني كي يتحدّث عن خطر مثلي داهم أم أنّه كان يعمل ضدّ ما يراه من خطرَين؟ وأين مكامن الخطر من المثليّة بالقياس مع الخطر الإسرائيلي الداهم والمستمرّ والضخم؟ هل أنّ محاربة الخطر (الذي أراه وهميّاً) حوّرَ الأنظار (أنظار الجمهور على الأقل) من الخطر الإسرائيلي؟ وما هي الفائدة السياسيّة من الحملة؟ هي وحّدت الرجعيّة الإسلاميّة مع الرجعيّة المسيحية وكلاهما غير متعاطفَين مع المقاومة أصلاً؟
عاشراً، شبهة الفساد والسلوك: كان هناك قبل 2005 إجماعٌ لبنانيٌّ أنّ الحزب يقع خارج منظومة الفساد اللّبناني. كانت النظرة إلى الحزب أنّه -خُلقيّاً- لا ينتمي إلى المنظومة. وكان عناصر الحزب، وحتى المناصرون، يتميّزون بسموّ الخُلق وسعة الصدر والترفّع عن الصغائر وعن الدناءات. وللأحزاب نظرات مختلفة إلى مسألة السلوكيّة والانضباط للعناصر. ومن الطبيعي أن تكون حركة مقاومة تجابه إسرائيل حريصةً على الانضباط لأنّ طبيعة المرحلة لا تتحمّل ارتجالاً أو زعرنات شوارعية، كما كان الحال في زمن منظّمة التحرير (وسرى ذلك على الأحزاب اللّبنانيّة في المقلبَين). هل يمكن أن ننفي أنّ السلوك الشائن للكثير من عناصر المقاومة الفلسطينية نفّرَ الشعب اللّبناني والأردني قبْل ذلك؟ هل نستطيع أن نلوم الرجعيّة فقط على شدّة العداء الشعبي ضدّ المقاومة الفلسطينية في لبنان والأردن من دون النظر إلى مسؤولية تنظيمات المقاومة الفلسطينيّة في ممارسات لم تمتّ بصِلة إلى المقاومة أو الثوريّة أو حرب التحرير الشعبيّة؟ ووعدت كلّ التنظيمات الفلسطينية بعد مجازر أيلول 1970 بإعادة النظر بالتجربة السابقة ولم تفِ بالوعد. «الشعبية» لامت «الديموقراطيّة» و«الديموقراطية» لامت «الشعبيّة» و«فتح» لامت اليسار الفلسطيني.

هل أنّ المراجعة التي سيقوم بها الحزب (وهي حتميّة بصرْف النظر عن النتائج والخلاصات) ستشمل المسلكيّات للنظر في درجة ابتعاد بعض القيادات والعناصر عن توجيهات القيادة الأخلاقيّة؟

عندما مات جورج حبش سخِرت بعض الأقلام في الصحافة السعودية من الطهرانية التي طبعت مسيرة حبش وكيف أنّه رأى أنّ الأخلاق الثوريّة هي عنصر أساسي في التنظيم. وهو فرض هذا الانضباط الخُلقي في تنظيم «حركة القوميين العرب» قبل إنشاء الجبهة الشعبيّة بعد هزيمة 1967. لكنّ التطبيق لم يكن بمستوى التنظير وشابَ التجربة تحلّلاً في الأخلاق الثورية حتى على مستوى القيادة. «الحكيم» (كما حسن نصرالله) حافظَ على مستوى عالٍ من الانضباط والتفاني الكلّي والنزاهة والترفّع الأخلاقي. لم يكن لنصرالله أو عبد الناصر أو حبش -أو حتى ياسر عرفات كي نكون منصِفين للرجل ومسيرته- أيّ نقاط ضعف شخصيّة أو مسلكيّة يستطيع العدوّ أن ينفذ منها. وليس مصادفة أنّ هؤلاء كانوا عنواناً للمجابهة مع إسرائيل. لم يكن يمكن مثلاً أن يكون زهير محسن أو أبو الزعيم أو محمود عبّاس أو محمد دحلان أو جبريل الرجّوب أو أبو العلاء قادةً للثورة الفلسطينيّة في مواجهة إسرائيل. ليس مصادفةً أنّ قيادات حزب الله عبر السنوات التزمَت بمسلك أخلاقي صارم ومترفّع وبثّت في صفوف الأعضاء معايير دقيقة وأخلاقيّة للسلوك الحزبي. وانعكس ذلك في مسار عمل مؤسّسات الحزب. كان يُضرب المثل بالأعضاء من ناحية الانضباط والأدب والتهذيب الشديد.
لكنّ الصورة (عن حقّ أو لا) تغيّرت في السنوات الأخيرة. بدا أنّ الانضباط تراخى بعد الحرب السورية، ومناصرو الحزب على المواقع لم يعودوا على المستوى الأخلاقي نفسه الذي عهدناه عليهم. كما إنّ بعض أفراد الحزب كانوا أحياناً يدخلون في شجارات واشتباكات لم نكن نألف لها مثيلاً من قبل. تفلّتَ البعض. وباتت الناس تتحدّث عن امتيازات لأفراد عائلات قياديّة. طبعاً، هناك إعلام صهيوني عربي وغربي يعمل على تشويه صورة الحزب واختلاق الأكاذيب عنهم وضخّوا أكاذيب عن قادة معروفين بنزاهتهم. لا يعلم المتابع البعيد من المجريات تفاصيلها، ولكنّ الناس تكوّن صورة في مرحلة وتغيّرها في مرحلة.
هل أنّ المراجعة التي سيقوم بها الحزب (وهي حتميّة بصرْف النظر عن النتائج والخلاصات) ستشمل المسلكيّات للنظر في درجة ابتعاد بعض قيادات وعناصر عن توجيهات القيادة الأخلاقيّة؟ إنّ صعود حسن نصرالله وزعامته مَدين للزعامة النزيهة والمنزّهة والمترفّعة التي كوّنها. وهل أنّ الحزب -أيّ حزب- عندما يكبر وتكثُر موارده يكون عرضةً لشبهات فساد؟ هل أنّ هناك من يصبح مُثقَلاً بالامتيازات والموارد، أو يكون مستفيداً منها عن غير وجه حقّ؟
حادي عشر، الإصرار على سليمان فرنجيّة رئيساً: لم أفهم يوماً إصرار الحزب على ترشيح سليمان فرنجية بعد أن كان الحزب قد أوصل ميشال عون إلى الرئاسة. ماذا يريد بعد؟ هل أنّه أراد (مع حليفه الشيعي) ضمان السيطرة على عمليّة اختيار الرئيس؟ كيف أنّ الحزب المتمرّس في الحياة السياسيّة اللّبنانيّة لم يعِ أبعاد إصراره (كثنائي شيعي) وخطورته على ترشيح ماروني وحيد؟ هل أنّه كان يقول إنّه ليس هناك من ماروني وطني كفؤ غير سليمان فرنجيّة؟ كيف لم يدخل في «أخذ وردّ» مع الحلفاء والخصوم من أجل إغلاق الملفّ؟ كيف يمكن أن يدع الحرب تجري وبوحشيّة من العدوّ من دون أن يقدّم أيّ تنازلات في الملف؟ ألم يشعر أنّ قوّة ضغطه تضعف أثناء الحرب وبقي مصرّاً على الترشيح الوحيد؟ هل كان هو والحليف الشيعي ليَقبلا لو أنّ حليفَين مارونيَّين أصرّا على ترشيح شيعي وحيد لرئاسة مجلس النواب، وأن يتمّ تعطيل عمليّة الانتخابات من أجل فرض الوحيد؟ ثم لو أنّ الحزب قبِلَ أن يساوم ويفاوض ويقايض قبل الحرب، أو في أشهرها الأولى، كان يمكن أن يصل إلى تفاهم على مرشح أقرب إليه من جوزيف عون؟ هل أنّ غرور القوّة هو الذي جعله يمضي في معركة ترشيح فرنجيّة إلى أن خارت قواه وخسر قوّة ضغطه في النظام اللّبناني وأتاح للسعودية وقطر وأميركا أن يفرضوا عليه وعلى غيره مرشّحاً وحيداً؟ المثال الرئاسي دليل على استسهال الحزب في ترجمة قوّته العسكريّة إلى سيطرة سياسيّة في بعض الملفات (طبعاً، لو كان لخصومه نصف القوّة العسكريّة لفرضوا سيطرة أقسى وأكثر ظُلماً من سيطرته).
ثاني عشر، ليس من الإنصاف مراجعة تجربة الحزب عبر ما تكوّن لدينا من معلومات بعد الحرب الأخيرة. لكن: هل أنّ الحزب بالغ في حجْم قوّته العسكريّة وقلّلَ من قوّة العدوّ العسكريّة؟ هل أنّ العدوّ أسهم في هذا الفخّ عبر تعظيم قوّة الحزب العسكريّة بطريقة لا تمتّ بصِلة إلى الحقائق على الأرض؟ هل أنّ العدوّ كرّر تجربته في التحضير للحرب ضدّ العراق في 1991 عندما جعل من جيش صدّام رابع أكبر جيش في العالم؟ العدوّ كان يتحدّث باستمرار عن التهديد الخطير للحزب ضدّ إسرائيل، لكنْ، هل كان كلامه من ضمن الحرب النفسيّة ضدّ الحزب؟ هل أنّ خطّة اقتحام الجليل كانت ممكنة فعليّاً أم أنّ العدوّ بالغ في خطورة الخطّة عليه كي يسهم في إقناع الحزب بقوّته العسكريّة إلى درجة تفوق حقيقتها؟ طبعاً، لا نستطيع أن نلوم الأمين العام للحزب على الشأن العسكري لأنّه وثقَ بفريق متمرّس وضليع خاض حروباً عدة. لكن: هل أنّ معلومات نصرالله عن وضْع الحزب العسكري كانت ناقصة لأسباب نجهلها (أو أنا أجهلها)؟
باختصار، لم يكن الحزب عشيّة «طوفان الأقصى» في أحسن حال. على العكس. كان يعاني من تنامي رأيٍ عام مناهض له، كما إنّه كان في حالة عُزلة سياسيّة. بدأ حلفاؤه بهجرته وتحوّل الكثير منهم نحو السعوديّة والإمارات. كان العدوّ يتحضّر بهدوء وسكينة ويخترق في لبنان على كلّ الصعد ويجنّد ويستعين بالوسائل الإلكترونية الحديثة جدّاً والتي شكّلت عاملاً في اتّساع الهوّة في عناصر القوّة بين الطرفَين؟ طبعاً، من الخيال أن نقارن قوّة حزبٍ بقوّة دولة ليست إلّا ذراعاً لأكبر قوّة عظمى في التاريخ.

(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة