أيهم السهلي
«يعمل الجيش الإسرائيلي في غزة بخمس فرق عسكرية، بقوة لا مثيل لها منذ بداية الحرب. لم نعد نتحدّث عن غارات ودخول وخروج، بل عن احتلال وتطهير وبقاء حتى القضاء على حماس». وأضاف: «وفي الطريق إلى تدمير حماس، ندمّر أيضاً ما تبقى من القطاع».
هكذا تحدّث وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش، في معرض حديث له عن التجويع قبل أشهر، وهذا ما تفعله حكومته وجيشها، وهكذا ترى الغالبية في إسرائيل.
هناك من يبارك التجويع كسلاح مستخدم في المعركة، بغض النظر عن كونه يستخدم في مواجهة مدنيين في القطاع. وبغض النظر عن أن 20 ألف طفل نقلوا إلى المستشفيات لتلقي العلاج من سوء التغذية الحاد بين نيسان وتموز الماضيين، بحسب تقرير صادر عن «التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC)» المدعوم من الأمم المتحدة، وهو شراكةٌ بين 21 منظمة دولية، تتعاون في ما بينها من أجل تحديد شدة ومدى انعدام الأمن الغذائي الحاد والمزمن وحالات سوء التغذية الحاد داخل البلدان، وفقاً للمعايير المعترف بها دوليًا.
حدد «IPC» خمس مراحل للمجاعة، هي، بحسب برنامج الأغذية العالمي، «مقياس ريختر للجوع»، وهذه المراحل هي:
(1) الحد الأدنى من انعدام الأمن الغذائي (لا مشكلة)،
(2) مرحلة انعدام الأمن الغذائي الحاد (الضغط)،
(3) انعدام الأمن الغذائي الحاد (الأزمة)،
(4) انعدام الأمن الغذائي الحاد (الطوارئ)،
(5) كارثة، أو مجاعة، وهي مرحلة الافتقار التام إلى إمكانية الحصول على الغذاء والاحتياجات الأساسية الأخرى.
وبحسب تقرير لـ«IPC» في 29 تموز الماضي، فإن «السيناريو الأسوأ لحدوث مجاعة يتكشّف حالياً في قطاع غزة»، ولا سيما أنه بسبب اشتداد الصراع والنزوح «انخفضت إمكانية الحصول على الغذاء وغيره من المواد والخدمات الأساسية إلى مستويات غير مسبوقة».
كل هذه المعطيات تؤشّر إلى أمر واحد: أن لإسرائيل هدفاً واحداً فقط، هو «تطهير» فلسطين من الفلسطينيين. وهي تقوم بذلك بشتى الطرق، بما فيها الجوع، «أحدث قاتل في غزة» بحسب لازاريني
ويضيف التقرير أن هناك أدلة متزايدة تشير إلى أن «انتشار المجاعة وسوء التغذية والأمراض يُسهم في ارتفاع الوفيات المرتبطة بالجوع» كما إنّ أحدث البيانات تشير إلى «بلوغ حد المجاعة في معظم أنحاء قطاع غزة، وفي مدينة غزة أيضاً».
وبحسب المنظمات الدولية، لكي يتم تصنيف منطقة ما على أنها في حالة مجاعة، يجب أن يعاني ما لا يقل عن 20% من سكانها من نقص حاد في الغذاء، وأن يعاني واحد من كل 3 أطفال من سوء التغذية الحاد، إلى جانب وفاة شخصين من كل 10 آلاف يومياً بسبب الجوع أو سوء التغذية والمرض.
وتعليقاً على هذا التقرير، قالت منظمة الصحة العالمة (شريكة في «IPC») إنّ «الناس [في غزة] لا يجدون طعاماً لأيام، وآخرون يموتون لأن أجسادهم التي تعاني نقص التغذية أو الضعف الشديد تستسلم للأمراض أو لفشل الأعضاء». وأضافت، حول وضع القطاع الصحي وإمكانية تدخّله لحماية الذين يعانون من نقص التغذية الحاد، أنه «بينما يُنتظر من النظام الصحي أن يكون مصدراً للإعاشة والإغاثة، فإنّ النظام الصحي في غزة يفتقر إلى الإمدادات الطبية الأساسية والوقود وغير ذلك من الضروريات اللازمة لأداء مهماته بشكلٍ كاملٍ؛ بل إن العاملين في المجال الإنساني والعاملين الصحيين يعانون الضعف بسبب الجوع».
كذلك الإعلام الحكومي في غزة، قال في 13 آب الجاري، إنّ أعداد الضحايا جراء المجاعة وسوء التغذية في القطاع، ارتفع إلى 235 شهيداً، بينهم 106 أطفال، و19 امرأة، و75 من كبار السن، و35 رجلاً فوق سنة الـ 18. وأضاف البيان أن 40 ألف رضيع (أقل من سنة) يعانون من سوء تغذية وحياتهم مهددة. و250 ألف طفل (أقل من 5 سنوات) يعانون من نقص غذاء يهدد حياتهم مباشرة. و1,200,000 طفل (أقل من 18 عاماً) يعيشون حالة انعدام أمن غذائي حاد.
هذا التجويع، وكل ما يحدث في قطاع غزة منذ نحو عامين، ليسا إبادة لحياة البشر فقط، بل إبادة لإمكانية واحتمالية الوجود والبقاء بعد الحرب. ويبدو ذلك جلياً بإنهاء حياة البشر والحجر، وإعدام وسائل المساعدة على البقاء كالمستشفيات والمراكز الصحية، والمنظمات الدولية التي كانت تعمل في غزة، وغيرها، فقد وقعت أمس 102 منظمة دولية، بياناً مشتركاً طالبت فيه إسرائيل بـ«وقف استخدام المساعدات سلاحاً في غزة».
وأضافت هذه المنظمات، بينها «أوكسفا» و«أطباء بلا حدود»، أن «إسرائيل تهدّد بحظر منظمات الإغاثة الرئيسية مع تفاقم المجاعة».
هذه المنظمات، كـ«الأونروا» و«برنامج الأغذية العالمي» و«يونيسف»، تطالب الاحتلال يومياً تقريباً بأن يُسمح لها بالعودة للعمل والقيام بواجبها تجاه الناس في غزة، إلا أن تلك المطالبات تقابل بالرفض التام. وبيّنت المنظمات التي وقّعت البيان، أنّ إسرائيل رفضت منذ آذار طلبات عشرات المنظمات غير الحكومية لإدخال المساعدت الإنسانية المنقذة للحياة إلى غزة، بدعوى أنها «غير مخولة» بذلك.
على العكس، فتحت إسرائيل المجال لـ«مؤسسة غزة الإنسانية» الأميركية، التي منذ إنشائها «قُتل ما يقارب 1,400 شخص أثناء بحثهم اليائس عن الطعام» بحسب تصريح المفوض العام لـ«الأونروا» فيليب لازاريني في 8 آب الجاري، والذي أضاف: «لقد حان الوقت لاستعادة بوصلتنا الأخلاقية وإنسانيتنا».
وفي محاولة لهذه الاستعادة، سمحت إسرائيل لبعض الإنزالات الجوية (بعضها قامت هي بها)، وهي عمليات تكلّف ما لا يقل عن 100 ضعف تكلفة الشاحنات التي تحمل ضعف كمية المساعدات التي تحملها الطائرات بحسب «الأونروا»، التي أكدت أن لديها ستة آلاف شاحنة محملة بالمساعدات، عالقة خارج غزة، في انتظار السماح بدخولها.
كل هذه المعطيات تؤشّر إلى أمر واحد: أن لإسرائيل هدفاً واحداً فقط، هو «تطهير» فلسطين من الفلسطينيين. وهي تقوم بذلك بشتى الطرق، بما فيها الجوع، «أحدث قاتل في غزة» بحسب لازاريني. وغداً، حين تتوقف الحرب، فإنها ستعمل كل يوم على فتح بوابات للتهجير، والأساليب كثيرة، منها منع إعادة الإعمار. ألا يحدث هذا في لبنان؟
* كاتب فلسطيني