د. محمود الحنفي
أستاذ القانون الدولي
شهد قطاع غزة مساء 10 أغسطس/ آب 2025 حادثة أليمة تمثّلت في استهداف مباشر لخيمة صحفيين أمام مجمّع الشفاء الطبي، ما أسفر عن استشهاد خمسة من صحفيي قناة الجزيرة على رأسهم المراسل أنس الشريف وزميله محمد قريقع وثلاثة من طاقم التصوير. وقد جاء هذا القصف الإسرائيلي بعد حملة تحريض وتهديد علنية استمرت لأشهر ضد الشريف من قبل المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي. أثارت الجريمة موجة إدانات دولية وحقوقية واسعة، واعتُبرت اعتداءً صارخًا على الصحافة ومحاولة لإسكات صوت الحقيقة في غزة. في هذا المقال نستعرض أبعاد هذه الواقعة من الناحية القانونية والحقوقية، وتأثيراتها على حرية التعبير، ودلالات استهداف الجزيرة تحديدًا، إضافة إلى معطيات حول استهداف الصحفيين في غزة، والنمط المتكرر لسياسات التحريض ثم الاغتيال، وصولًا إلى مسألة المساءلة الدولية.
الحماية القانونية للصحفيين في زمن الحرب
يُؤكد القانون الدولي الإنساني بوضوح حماية الصحفيين المدنيين أثناء النزاعات المسلحة. فقد نصَّ البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 لاتفاقيات جنيف (المادة 79) على أن الصحفيين الذين يقومون بمهام مهنية في مناطق النزاع يُعاملون كمدنيين ويحظَون بالحماية، ما لم يشاركوا بشكل مباشر في الأعمال العدائية. وبناءً على ذلك، فإن استهدافهم بشكل متعمد يُعدّ انتهاكًا جسيمًا واتفاقه جريمة حرب. بالفعل، يندرج القتل العمد للصحفيين ضمن جرائم الحرب الواقعة ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وفق المادة 8 من نظام روما الأساسي. وهذا المبدأ أكّدته أيضًا لجنة حماية الصحفيين(CPJ) بأن الصحفيين يُعتبرون مدنيين في نظر القانون الدولي الإنساني، وأن استهدافهم في سياق نزاع مسلّح يُعتبر جريمة حرب.
علاوة على ذلك، تتمتع الطواقم الإعلامية بحماية خاصة بموجب قرارات دولية. ففي عام 2006 تبنى مجلس الأمن القرار 1738، وأعقبه القرار 2222 لعام 2015، وكلاهما شدّدا على ضرورة حماية الصحفيين وضمان سلامتهم أثناء النزاعات. هذه القرارات تُذكّر جميع أطراف النزاع بالتزاماتهم القانونية لحماية الإعلاميين واعتبار الهجمات ضدهم انتهاكًا للقانون الدولي. وباختصار، المنظومة القانونية الدولية – من اتفاقيات جنيف إلى نظام روما وقرارات الأمم المتحدة – تتفق على قاعدة أساسية مفادها: الصحفيون المدنيون ليسوا هدفًا مشروعًا، وأي اعتداء عليهم قد يرقى لجريمة حرب.
حرية التعبير
وحق المعرفة تحت النار
لا تقتصر تداعيات استهداف الصحفيين على الجانب الإنساني فحسب، بل تمتد إلى انتهاك صارخ لحرية التعبير وحق الجمهور في المعرفة. إذ يكفل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) في مادته الـ19 حق كل فرد في حرية التعبير، بما يشمل حرية استقاء الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بمختلف الوسائل. الصحفيون هم الوسيط الأساسي الذي يمكّن الجمهور من ممارسة هذا الحق عبر نقل الحقائق والمعلومات. لذلك فإن استهداف الصحافة هو اعتداء على حق المجتمع في معرفة الحقيقة وعلى حرية الصحافة المكفولة دوليًا.
إن الصحفي الشهيد أنس الشريف ورفاقه كانوا ينقلون معاناة المدنيين تحت القصف لحظة بلحظة، ووجودهم المكثف في الميدان كان يُتيح للعالم متابعة ما تصفه المؤسسات الحقوقية بـ«جرائم حرب» ضد المدنيين. إن قتلهم لا ينتهك حقهم في الحياة وسلامتهم المهنية فحسب، بل يحرم ملايين الناس من حق الاطلاع على المعلومات من مصادر مستقلة وميدانية. وبناء عليه، يرى المراقبون أن استهداف الصحفيين هو استهداف للحقيقة ذاتها وخرق مزدوج: لقوانين الحرب من جهة، ولحقوق الإنسان الأساسية من جهة أخرى.
لماذا قناة الجزيرة تحديدًا؟
أثار استهداف فريق الجزيرة تساؤلات حول دوافع إسرائيل لاستهداف هذه القناة بالذات. فعلى مدار السنوات والأشهر التي سبقت الجريمة، برزت الجزيرة كأحد المنابر الإعلامية القليلة التي ما زالت تنقل ما يحدث داخل غزة إلى العالم في ظل منع الصحافة الأجنبية من الدخول. وقد بدا أن السياسة الإسرائيلية تجاه الجزيرة اتخذت مسارًا تصعيديًا منذ بدء الحرب على غزة في أكتــــــوبر/ تشرين الأول 2023. فعلى الصعيد الميداني، تعرض صحفيو الجــــــزيرة لسلــــسلة اعتداءات مباشرة. ففي 25 أكــــــــتوبر 2023 قصف الجيش الإسرائيلي منزل عائلة الزميــــــل وائل الدحدوح رئيس مكتب الجزيرة بغــــــزة ما أدى لاستشهاد زوجته واثنـــــين من أولاده. وبعدها بشهرين، تعرض الدحدوح نفسه لمحاولة اغتيال عبر قصف سيارته أثناء التغطية (أصيب بجروح حينها واستشهد المصور سامر أبو دقة في ديسمبر/ كانون الأول 2023). تواصلت الاعتداءات باغتيال الصحفي إسماعيل الغول مراسل الجزيرة نهاية يوليو/ تموز 2024 وهو يؤدي عمله.
وبالتوازي مع الاستهداف الجسدي، انتهجت إسرائيل خطوات لحظر عمل الجزيرة وتقييدها. فقد أغلقت سلطات الاحتلال مكاتب الجزيرة في القدس ورام الله عدة مرات خلال الحرب. وفي أحدث مثال، اقتحمت قوات الاحتلال مكتب الجزيرة في رام الله أواخر يوليو 2025 وجددت قرار إغلاقه قسريًا لمدة شهرين إضافيين. وبررت الحكومة الإسرائيلية هذه الإجراءات باتهام قناة الجزيرة بـ«التحريض» ونشر رواية معادية لإسرائيل. بل وصل الأمر إلى إعلان وزير الاتصالات الإسرائيلي أنه سيعمل على حظر بث الجزيرة وإلغاء تصاريح عمل صحفييها في إسرائيل، في خطوة اعتبرتها منظمات صحفية يومًا أسود لحرية الصحافة في الدولة التي تدّعي الديمقراطية.
ويرى مراقبون أن استهداف الجزيرة تحديدًا نابع من كونها صوتًا يصل إلى جمهور عربي ودولي واسع، ويقدم سردية تنقل معاناة الفلسطينيين على الأرض. تغطية مراسلي الجزيرة المباشرة من قلب الحدث – كما في غزة – شكلت مصدر إزعاج كبير لجيش الاحتلال الإسرائيلي الساعي للسيطرة على الرواية الإعلامية. ولذا لجأت إسرائيل إلى تشويه صورة صحفيي الجزيرة واتهامهم بالإرهاب كذريعة لضرب مصداقيتهم وربما تبرير استهدافهم لاحقًا. فعلى سبيل المثال، نشر الجيش الإسرائيلي في أكتوبر 2024 قائمة تضم ستة صحفيين فلسطينيين – بينهم أنس الشريف – وزعم أنهم أعضاء في حركتي حماس والجهاد. هذه الادعاءات قوبلت بالنفي من الجزيرة ومؤسسات دولية التي اعتبرتها اتهامات مفبركة تهدف للتحريض. وبالنظر إلى هذا السياق، يصبح واضحًا أن الجزيرة كانت في مرمى الاستهداف الإسرائيلي سياسيًا وإعلاميًا قبل أن تصبح هدفًا عسكريًا. إنها محاولة لتغييب الشهود الميدانيين على ما يحدث في غزة، سواء عبر المنع الإداري أو التصفية الجسدية.
معطيات وأرقام عن استهداف الصحفيين في غزة
تشير الإحصائيات إلى أن الحرب الدائرة في غزة منـــــذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أصبحت الأكثر دموية في التاريخ الحديث بالنسبة للصحفيين. بيد أن أرقام الضـــــحايا تختلف بين المصادر بسبب تباين منهجيات التوثـــــيق والتعــــــريف. فوفق المكـــتب الإعلامي الحكومي في غــــــزة، بلغ عدد الصحفيين الذين قتلتهم القـــوات الإسرائيلية منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023 نحو 238 صحفيًا حتى مطلع أغســــــــــطس/ آب 2025. تعـتبر هذه الحصـــيلة غير مسبوقة عالميًا، حيث تفوق أي نـــــزاع آخر من حيث قتل الإعلاميين. في المقابل، وثّقت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) – وهي منظمة دولية مستقلة – مقتل ما لا يقل عن 186 صحفيًا خلال الفترة ذاتها في سياق النزاع في غزة.
هذا التفاوت في الأرقام يعود إلى اختلاف المعايير المتبعة في كل جهة. فالمصادر المحلية تحتسب كل من يعمل في الإعلام واستُشهد نتيجة القصف الإسرائيلي – سواء كان على رأس عمله أو استهدف في منزله – كضحايا من الصحفيين. أما لجنة حماية الصحفيين فتستخدم منهجية تدقق في ما إذا كان القتل مرتبطًا مباشرة بالنشاط الصحفي؛ فإذا تبيّن لها دلائل معقولة على ذلك أدرجت الحالة في إحصائها. كما تستثني اللجنة الحالات التي يثبت فيها أن الشخص كان مشاركًا فعليًا في القتال أو التحريض المباشر على العنف.
تجدر الإشارة إلى أن هذا النزاع تخطى كل سوابق استهداف الإعلاميين. فقبل حرب غزة 2023-2025، كان العراق يُعتبر أخطر ساحات العمل الصحفي (قُتل فيه 286 صحفيًا منذ عام 1992)، أما الآن فقد اقتربت أعداد الشهداء الصحفيين في سياق حرب الإبادة الإسرائيلية من هذا المستوى إن لم تتجاوزه. وتذكر منظمات دولية أنه حتى الحرب العالمية الثانية لم تشهد هذه الخسائر في صفوف الإعلاميين، ما يعكس جسامة الوضع الراهن وحجم التحدي الذي تواجهه حرية الصحافة في مناطق النزاعات.
نمط متكرر: تشهير ثم تصفية
لم تكن واقعة استهداف فريق الجزيرة منفصلة عن نمط عام بات يُميز التعامل الإسرائيلي مع الصحفيين الفلسطينيين. فقبل كل عملية اغتـــيال بارزة لصحفي، تسبقها في العادة حملة تشهير وتحريض رسمية تصوّره كـ«خطر أمني» أو «ناشط إرهابي متنكر في هيئة صحفي». وقد شهدنا هذا النمط بوضوح في حالة أنس الشريف: فعلى مدار أشهر قبل اغتياله، خصّه المتحدث باسم الجيش أفيخاي أدرعي بهجوم مستمر عبر وسائل التواصل، واتهمه صراحة بـ«دعم الإرهاب» وتبرير أفعال المقاومة. كذلك، كما أسلفنا، أعلن الجيش أسماء عدد من الصحفيين واتهمهم بالانتماء لفصائل مسلحة دون أدلة. هذه الاتهامات العلنية وضعت هؤلاء الصحفيين في دائرة الاستهداف المباشر ومهّدت الأجواء لتبرير أي إجراء عنيف ضدهم.
منظمات دولية انتبهت منذ البداية إلى خطورة هذا الخطاب التحريضي. فحين أصدر الجيش الإسرائيلي قائمة الاتهام بحق صحفيي غزة في أكتوبر 2024، نبهت لجنة حماية الصحفيين إلى أن وصم الصحفيين بالإرهاب دون دليل قد يكون تمهيدًا لتصفيتهم. وبالفعل، صرّحت الرئيسة التنفيذية للجنة جودي جينسبيرغ آنذاك بقولها: «حذّرنا من أن ذلك أشبه بتمهيد لاغتيالهم… فهذا جزء من نمط متكرر منذ عقود تُقدم فيه إسرائيل على قتل الصحفيين». هذا التصريح يشير بوضوح إلى سياق تاريخي أوسع، حيث تعرض العديد من الصحفيين الفلسطينيين (وحتى أجانب في بعض الحالات) للقتل بنيران الجيش الإسرائيلي بعد حملات تخوين أو اتهام. فالمراسلة شيرين أبو عاقلة مثلًا قُتلت برصاص قناص إسرائيلي عام 2022 عقب تغطيتها اقتحامات الضفة، وقد سبقتها أيضًا موجات من التحريض ضد الإعلاميين في حينه.
كما أكدت منظمات كـالاتحاد الدولي للصحفيين ونقابات محلية أن اغتيال صحفيي الجزيرة جاء تتويجًا لحملة شيطنة ممنهجة. فقد اعتاد المسؤولون الإسرائيليون وصف بعض الصحفيين بأنهم «ناشطون» أو «ناطقون باسم حماس»، في مسعى لنزع صفة الحماية عنهم. وترى هذه المنظمات أن هذا النمط (التشويه ثم الهجوم) يشكل انتهاكًا مزدوجًا: فهو أولًا تحريض يعرض سلامة الصحفي لخطر مباشر، وثانيًا تنفيذ لتهديد خطير ضد حياة الصحفي بمجرد سنوح الفرصة.
المسؤولية الدولية والمساءلة
في المحصلة، أعاد استهداف فريق الجزيرة في غزة تسليط الضوء على الثمن الفادح الذي يدفعه الصحفيون الفلسطينيون في حرب الإبادة، وعلى أهمية دورهم كشهود أحيانًا يكونون الوحيدين. هذه الجريمة المروعة تضع مسؤولية قانونية وأخلاقية على عاتق المجتمع الدولي للتحرك؛ فالمحاسبة العادلة ليست فقط إنصافًا للضحايا وعائلاتهم، بل هي أيضًا رسالة حماية لكل صحفي يغامر بحياته لأجل إيصال الحقيقة، وتأكيد أن يد العدالة الدولية يمكن أن تطال مرتكبي الجرائم ضد حرية الكلمة.
وفي هذا السياق، فإن من بين أدوات الضغط الفعّالة ضرورة مقاطعة كل وسائل الإعلام الإسرائيلية المتورطة في التحريض أو تبرير جرائم الحرب، وفضح خطابها الممنهج الذي يشرعن العنف ضد الفلسطينيين، باعتبار هذه المؤسسات جزءًا من آلة الاحتلال الدعائية التي تهيئ الرأي العام للجريمة وتمنح القتلة غطاءً سياسيًا وأخلاقيًا.
ترجمة هذه الوعود إلى أفعال، يبقى صوت الجزيرة ورفاقها الشهداء شاهدًا حيًّا على حقيقة ما يجري في غزة، ودليلًا على أن الكلمة الحرة قد تُقتل جسديًا لكنها لن تُمحى من الذاكرة والضمير الإنساني.