آخر الأخبار

طوفان الأقصى: لحظة التحوّل وميلاد الشرق الجديد

1544336_1697752510

أحمد عبد الهادي

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، قبل عامين، انبثق من بين رماد الحصار والخذلان فعلٌ هزّ العالم وأعاد رسم الوعي الإنساني والسياسي. فـ«طوفان الأقصى» لم يكن حدثاً عابراً أو معركةً عسكرية فحسب، بل كان ضرورة وطنية وتحررية، فرضتها لحظةٌ كانت فيها القضية الفلسطينية قاب قوسين أو أدنى من التصفية، ضمن هندسة جديدة للمنطقة أرادتها واشنطن وتل أبيب لتكريس الكيان الصهيوني سيداً مطلقاً على «شرق أوسط جديد»، محروس بمئة عام إضافية من اتفاق سايكس – بيكو.

جاء «طوفان الأقصى» استجابةً لحتمية تاريخية وشعبية، بعد عقودٍ من محاولات إخماد روح المقاومة وتطبيع الوعي العربي مع الاحتلال، وبعدما بلغت محاولات تصفية القضية ذروتها تحت لافتة «الازدهار مقابل الأمن». في تلك اللحظة المفصلية، تحرّك أبناء غزة لا بوصفهم مقاومين فقط، بل كحراسٍ لجوهر الهوية العربية والإسلامية، ليعلنوا أن الشعب الذي يُحاصر لا يستسلم، بل يكتب بدمه خارطة الحرية.
مر عامان، ولم يستطع العدو، رغم آلة القتل والإبادة والحصار والتجويع، أن يُخضع المقاومة، وفشل في تحقيق أهدافه المعلنة: لم يُنهِ وجود كتائب القسام وفصائل المقاومة الفلسطينية، ولم يُسقط قيادة المقاومة، ولم يستطع فرض معادلة سياسية جديدة رغم حربه الشرسة عسكرياً وسياسياً.

أما الولايات المتحدة، التي خاضت المعركة إلى جانب تل أبيب سياسياً وديبلوماسياً وعسكرياً ومالياً وإعلامياً، فقد خسرت بدورها الرهان على تحييد الشعوب وكسب الرأي العام، لتجد نفسها في مواجهة عزلة أخلاقية وإنسانية غير مسبوقة.

ومعركة الطوفان لم تكن مجرد مواجهة ميدانية، بل مثّلت أشرس معركة تفاوضية سياسية في تاريخ الصراع. حيث قاومت قيادة المقاومة الضغوط الدولية الهائلة، ورفضت الإملاءات، وتمسكت بثوابتها رغم التهديدات والمجازر. وقدّمت نموذجاً في الثبات الاستراتيجي، والقدرة على إدارة الحرب والسياسة معاً، فأربكت العدو وأفشلت محاولاته لاستثمار الكارثة الإنسانية في تحقيق مكاسب سياسية.

نتائج استراتيجية

غيّر الطوفان معادلات الأمن والردع في المنطقة. وتلقّى العدو ضربة وجودية في عمق منظومته الأمنية والنفسية، وتعرّضت صورة «الجيش الذي لا يُقهر» للانهيار الكامل. كما سقطت سرديته أمام العالم، وخسر الرأي العام الدولي الذي يشاهد المجازر اليومية والدمار في غزة، وارتفعت القضية الفلسطينية مجدداً إلى قمة الوعي الإنساني العالمي بوصفها قضية حرية وعدالة.
كما كشف الطوفان هشاشة التحالفات الإقليمية التي بُنيت على وهم «السلام مقابل الأمن»، وفتح الباب أمام تحوّل استراتيجي في بنية الإقليم تُعيد التوازن إلى معادلة الصراع، وتُنذر بنهاية مرحلة التفوق الصهيوني.

لم تكن العملية فعلاً عبثياً بل فعلاً فتح الباب أمام واقع جديد، وكل الدماء لا تحجب الخسارة الاستراتيجية للعدو مهما تكاثر المنهزمون

وفي موازاة هذا التحوّل العميق، يسعى بعضهم إلى تفريغ الطوفان من مضمونه التحرري عبر تحميل المقاومة مسؤولية الإبادة والدمار، وكأنّ من قاوم الاحتلال هو الجاني، ومن مارس القتل والحصار هو الضحية. وهذه المحاولة المريبة، ليست سوى امتداد للحرب النفسية والسياسية الهادفة إلى إعادة فرض معادلة الاستسلام باعتبارها «الخيار العقلاني» أمام قوةٍ عسكرية متفوقة.

لكنّ هذا الطرح يشكل في جوهره هروباً من الحقيقة الاستراتيجية، حيث إن الاستسلام لا يُنقذ الأرواح بل يُشرع القهر والاحتلال، والمقاومة ليست عبثاً، بل فعل الوجود الأخير لشعبٍ حُرم من كل أدوات الدفاع إلا إرادته.

لقد أراد العدو وحلفاؤه أن تُدان المقاومة بدماء شعبها، ليُبرّئوا آلة الحرب التي ارتكبت المجازر الجماعية، ولكنّ العالم بدأ يدرك أنّ المأساة الحقيقية ليست في صمود غزة، بل في الصمت أمام الظلم. وهنا، يصبح الدفاع عن المقاومة دفاعاً عن الحقّ الإنساني في الحرية، لا عن طرفٍ سياسي أو عسكري.

إنّ التضحيات التي قدّمها أبناء فلسطين لم تكن تهوراً أو انتحاراً، بل كانت فعلاً استراتيجياً واعياً أعاد الاعتبار إلى مفهوم الردع الشعبي، وأثبت أنّ الشعوب يمكن أن تفرض معادلاتها حتى في وجه القوى الأعظم.

لم تكن التضحيات الجسيمة التي قدّمها الشعب الفلسطيني عبثاً، بل كانت الثمن المقدس للحرية والتحرر. آلاف الشهداء بمن فيهم القادة العِظام والجرحى والمفقودون كتبوا بدمائهم فجر الأمة القادم. ومن رحم الألم خرجت ملامح وعيٍ عربي وإسلامي جديد، يستعيد الإيمان بالمقاومة كطريقٍ واقعي للكرامة، لا كخيارٍ عاطفي.

وحدة الميدان: من غزة إلى الإقليم

من غزة إلى لبنان، ومن اليمن إلى العراق، ومن إيران إلى شعوب الأمة الحرة، تشكّلت جبهة الوعي التي كسرت احتكار العدو للسردية، وأعلنت أن فلسطين ليست وحدها. فالمقاومة اليوم لم تعد فعلاً محلياً، بل مشروع تحرر إقليمي وعالمي، تتكامل فيه الإرادات وتتوحد فيه البوصلة نحو القدس.

لم يكن «طوفان الأقصى» خاتمة لفصل، بل بداية عهد جديد في مسار المنطقة والعالم. عهدٌ تتهاوى فيه أوهام التفوق الصهيوني، ويولد نظام إقليمي جديد لا مكان فيه لكيانٍ غاصبٍ فقد شرعيته، وتهاوت ركائز بقائه. فالفعل الاستثنائي الذي فجّره أبطال غزة، بذكائهم وبسالتهم، لن يتوقف أثره عند حدود فلسطين، بل سيمتد ليُعيد رسم خريطة العالم وفق معادلةٍ جديدة قاعدتها: أنّ الشعوب التي تُقاوم لا تُهزم، وأنّ الكيان الصهيوني إلى زوالٍ قريب.

*ممثل حركة حماس في لبنان

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة