آخر الأخبار

مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة [21]

212-r8uptr3caelyt8yion9keysxyto4yu9q3my084i8hc-rb94sv0yy9gzdftawnccgw2t1615m639nymasu8p68

أسعد أبو خليل

حرب الإسناد: السريّة والفرضيّات الخاطئة

المقابلة التي أجراها أخيراً جاد غصن مع النائب في حزب الله، حسن فضل الله، تطرحُ المزيد من الأسئلة عن الموضوع الذي أنا -ومَن أنا- بصدده. يقول فضل الله إنّ الحزب لن يُعلنَ كلّ نتائج تحقيقاته عن الحرب الأخيرة وأداء الحزب فيها لأنّه يريد أن يُبقي بعضاً منها سرّياً، وهذا حقّه. الحرب بين الحزب وإسرائيل لم تنتهِ بل هي زادت ضراوةً: لأنّ الحزب لديه ثأرٌ دَهريّ بسبب اغتيال أمين عام الحزب وخليفته وقادة عسكريّين، وإسرائيل لا تهادن في حروبها مع العرب وهي لا تقبل بأقلّ من الإفناء والإبادة كما تفعل في غزّة. لكنّ الحزب مُلزمٌ بتقديم أجزاء من نتائج تحقيقاته من أجل مصداقيّته مع جمهوره ومع الرأي العام اللّبناني والعربي.

فالحزب لا يمكن أن يُفصحَ عن كلّ ما تجمّع لديه من معلومات وأسرار، بخاصّة إذا كان بعضها يفيد العدوّ المتربّص. يجب ألا يعرف العدوّ ما يعرف الحزب، ولا ما اكتشف عن نجاحات العدوّ في الاختراق الإلكتروني أو البشري. ولا يمكن أن ينجح الحزب في استخلاص العِبر والدروس عمّا جرى إذا كان سيكتفي بمراجعته التنظيميّة الذاتيّة (والذي جرى كارثة بكلّ المعاني، وإن كان التشبيه بـ1982 ضارّاً لأنّ قوّات المقاومة استبسلت في القتال في الحرب الأخيرة واستطاعت -رغم الخسائر- أن تصدّ العدوّ وتمنع تقدّمه على الأرض، وهذا لم يحصل في 1978 أو 1982 في جنوب لبنان. العدوّ انتظر حلول وقْف النار والتزام الحزب به قبل أن يتقدّم ويحتلّ موطئ قدم في الجنوب).

العدوّ في مراجعاته لأدائه العسكري والاستخباراتي يستعين، مثلاً، بخبراء من خارج المنظومة العسكريّة والاستخباراتيّة، لأنّ الرؤية من الخارج تكون بمنظار مختلف وقد تُسهم في توضيح بعض الأمور، والقدرة على الحديث عنها بصراحةٍ غير خاضعة لضوابط تنظيميّة أو لمراقبة دعائيّة. ردّ فعل أنصار الحزب القاسي على كلام نواف الموسوي لا يبشّر بالخير. هو يشير إلى موقف دفاعي متزمّت ومنغلق بعض الشيء.

والحديث مع فضل الله سلّط الضوء على الموقف الدفاعي الذي لا يزال البعض في الحزب يتّخذونه ويتشبّثون به. فضل الله كرّر غير مرّة الحديث عن نوع الاختراق وأنّه «تقني» أو فنّي، لأنّ الوقع أخفّ. لكنّ الاختراق التقني لا يُعذر ولا يُبرّر أبداً. والقول إنّ قدرات العدوّ الخارقة، أو قدرات حلفاء إسرائيل في الغرب، وهم أسهموا في الحرب على الحزب وعلى لبنان في الحرب الأخيرة، هي نتيجة تفوّق تكنولوجي تُعفي -عن قصد أو عفواً- الحزبَ من المسؤوليّة. لا، الاختراق التقني في كثير من جوانبه لا يعود إلى تفوّق العدوّ بقدر ما يعود إلى استرخاء أو تراخٍ أمني. والاختراق الإلكتروني أعمى من دون اختراق بشري لشرح ما يتجمّع من معلومات.

هناك بديهيّات احتراز أمني وهناك تجلّيات للوقوع في غرور القوّة المفرطة. بعيداً من تشبيه منظّمة «القاعدة» الجهاديّة بتنظيم سياسي وعسكري مثل حزب الله، فإنّ أسامة بن لادن توقّف عن استعمال كلّ وسائل التكنولوجيا ابتداءً من شباط 1998. لم تعُد الاستخبارات الأميركيّة تسجّل أيّ بصمة إلكترونيّة له، لا بالصوت ولا بالصورة ولا بالتواجد الإنترنتي. أدرك بن لادن أنّ أميركا (في أواخر التسعينيّات) تستطيع أن تصل إليه عبر البصمات الإلكترونية. لم تصل أميركا إلى بن لادن إلكترونيّاً، بل عبر العثور على ساعٍ لمنظّمة القاعدة والذي قادهم إلى حامل رسائل إلى بن لادن.

وحتى بعد رصْد المبنى الذي كان يقطنه في أبوت آباد خارج إسلام آباد، لم تكن أميركا متأكّدة أنّ الرجل الطويل القامة هو فعلاً بن لادن. إنّ اضطرار قائد الحزب، بعد الشروع في حرب الإسناد، إلى مخاطبة عناصر الفريق العسكري في الحزب كي يتوقّف عن استعمال الهواتف الذكيّة هو دليل تراخٍ فظيع.

لم يكن مُنصِفاً له أن يضطرّ أمين عام الحزب إلى مخاطبة عناصر تنظيمه علناً كي يرجوهم للتوقّف عن حمل الهواتف الذكيّة. أين كان المسؤولون العسكريّون والأمنيون قبل اندلاع الحرب للتحذير من مخاطر حمْل الهواتف الذكيّة واستعمالها؟ وهذه الظاهرة انتشرت وشاعت من قبل، وبخاصّة بعد الحرب السورية. وما نزال للساعة نرى تصويراً لتشييع مقاتلي الحزب، وظهر أخيراً مقاتلو «الرضوان» مكشوفي الأعين. كلّ هذه الظواهر تتناقض مع السرّية التي طبعت فترة انطلاق الحزب حين فشل العدوّ في الوصول إلى هيكليّة الحزب الناشئة.

وبثّت محطة «الميادين» أخيراً آخر صورة لنصرالله وفيها يظهر في مقرّ القيادة وأمامه جهاز هاتف سلكي. إنّ مسؤوليّة أمن قائد الحزب ليست له بل تعود لفريق أمني متخصّص. وصحيح أنّ عدداً من هذا الفريق تعرّضوا للقصف والاستهداف، ولكنّ المراجعة والمحاسبة هما لاستخلاص الدروس للمستقبل إذا كان الحزب عازماً على النهوض وإعادة البناء رغم الظروف المحيطة غير الملائمة. ومناصرو الحزب يبدو أنّهم يرفضون أيّ مساءلة أو مراجعة حتى الساعة (أو هذا انطباعي من صيف قضيته في لبنان) ويرَون أنّ ذلك يدخل في باب التشكيك.

ولماذا يُسمح بالتصوير في مقرّ القيادة ولماذا كان أمين عام الحزب موجوداً في المنطقة التي تشكّل الرقم الأول في قائمة الاستهداف؟ مَن سمحَ بذلك؟ وحتى لو أنّ قائد الحزب كان هو أحياناً يقرّر التواجد، ولكنّ الفريق الأمني المتخصّص عادة، له الصلاحيّة في مخالفة قرارات المسؤول أو الرئيس إذا كانت المخالفة في صالح سلامة المسؤول والرئيس. بعد 11 أيلول، منع فريق حراسة جورج بوش الرئيس الأميركي من العودة إلى البيت الأبيض واضطرّ إلى البقاء لساعات في قاعدة عسكريّة بعيدة من العاصمة واشنطن.

المساءلة هي أوّل الطريق لتشكيل جدار حماية للجسم الحزبي الذي تعرّض لضربات قاصمة خلال الحرب والذي لا يزال بعض عناصره يتعرّضون للاغتيال

تحدّث محمد رعد في مقالة أخيرة في «الأخبار» عن القائد العسكري، إبراهيم عقيل، وأشار عَرَضاً إلى نقاش داخلي جارٍ في الحزب وهذه ظاهرة صحّية. إنّ المراجعة الحقيقيّة الفعّالة لا تخضع لمحرّمات. يقول محمد رعد مخاطباً إبراهيم عقيل: «قد يوافقك الكثيرون على أدائك، وقد يختلف معك آخرون حتى من إخوانك أبناء مدرسة المقاومة الإسلاميّة». هذه الملاحظة ترسم معالم مراجعة لتحديد مسؤوليّات وتقييم أدوار ورسم أولويّات والاستفادة من مرحلة أساسيّة في تاريخ الحزب، من دون الانتقاص من تضحيات عقيل وأعماله، بخاصّة أنّ التفاصيل ليست ملك العامّة، بل هي تدخل في أمور تخصّ الحزب.

نحن نستطيع أن نحكم فقط على نتائج الحرب المدمّرة. والمساءلة هي أوّل الطريق لتشكيل جدار حماية للجسم الحزبي الذي تعرّض لضربات قاصمة خلال الحرب والذي لا يزال بعض عناصره يتعرّضون للاغتيال (طبعاً، يجب التعامل مع كلّ زعْمٍ إسرائيلي حول هويّة الشخص المُغتال بالتشكيك والريبة لأنّ العدوّ يستسهل الكذب في مزاعمه، وله تاريخ عريق في التزوير والتلفيق للتغطية على تعثّراته).

علّق صديق على تميّز حركة «حماس» في غزّة في حماية بُنيتها التنظيميّة من الاختراق قائلاً إنّ جيل قادة حماس أصغر سنّاً من قادة الحزب وإنّهم تخرّجوا من الجامعات في زمن يكون فيه التلاميذ عارفين إلكترونيّاً وحاسوبيّاً. هل أنّ التساهل والتراخي الأمني دليل على نقْص في المعرفة التكنولوجية عند قادة في الحزب؟ لكن المقارنة بين «حماس» والحزب غير مُنصفة للأخير، لأنّ «حماس» أمسكت بالوضع الأمني في غزّة وطاردت العملاء، وشارك السنوار شخصيّاً في تعقّب العملاء ومعاقبتهم. الحزب يتحرّك في بيئة مفتوحة والحزب قرَّرَ بعد 2000 أنّه سيسامح العملاء وذلك مسايرةً منه للبطريرك الماروني الذي أصرّ على التعامل المتسامِح مع عملاء جيش لحد ومجرميه.

وأمين عام الحزب أصدر قراراً بحظْر تطبيق عقوبة الإعدام على عملاء إسرائيل، لا بل هو أصرّ على تسليمهم إلى الدولة. وحتى في العهود التي سبقت هذا العهد (أي عهد حليف للحزب) كان العميل الإسرائيلي يقضي عقوبة أشهر أو بضْع سنوات ثم يخرج ويصبح بطلاً لحرّية التعبير. وأتباع السعوديّة والإمارات سخّفوا كلّ اتّهام عمالة لإسرائيل وأصبح كلّ عميل مُتّهم هو ضحيّة (إلّا إذا كان العميل عضواً في الحزب عندها يُدان وتصيح الجوقة متهكّمةً مصرّة أن «دود الخلّ منه وفيه»).

لكنّ السياق المفتوح (والمعادي في الكثير من الأحيان) الذي يتحرّك فيه الحزب، والانهيار المالي الذي سمح للعدوّ أن يجنّد عملاء من طوائف مختلفة بحفنة من الدولارات يزيد الضغط على الحزب -أو كان يجب أن يزيد الضغط على الحزب- من أجل التزام السرّية والحيطة. عندما تستمع لأحاديث خاصّة مع أفراد عائلة نصرالله، تدرك أنّ فريقه الأمني سمح له باستعمال الهاتف. وكان يهاتف عائلات شهداء وضحايا في لبنان وفي فلسطين. الدافع النبيل للمهاتفة يتعارض مع التدابير الأمنيّة التي كان يجب أن تكون مَفروضة عليه لحمايته. إنّ الهوّة التكنولوجيّة التي يتحدّث الكثير عنها كان يمكن أن تكون أضيَق بكثير لو أنّ الحزب اتّخذ تدابير أمنية صارمة لحماية قادته وجسمه القيادي والتنظيمي.

إنّ ما نقرأه عن اختراق لخارطة «الأماكن» أو مواقع مخازن الصواريخ يجعلك تتساءل إذا كان هناك إدراك مِن قِبل المسؤولين في الحزب عن أنّ هناك إمكانيّة لتشغيل حاسوب أو حتى تلفزيون ذكي أو حتى هاتف ذكي من دون لمْسه. هناك سجلّ لاختراقات إسرائيليّة لهواتف حتى لو لم تكن متّصلة بالإنترنت. إنّ الهاتف الخليوي (ولو كان غير متّصل بالـ«واي.فاي») يرتبط بأبراج خليويّة وتستطيع أجهزة استخبارات معادية أن تخترق -عبر «أبراج مزيّفة»- الاتّصالات والرسائل الإلكترونية وزرع فيروسات خبيثة.

ونشرت الصحافة العالميّة الكثير عن قدرات الموساد الإلكترونية خصوصاً عبر «بيغاسوس» التي يمكن زرعها في هاتف من دون الحاجة إلى الضغط على رابط. ويستطيع أيّ شخص معادٍ بمجرّد إمساك الهاتف (بهدف تصليحه مثلاً أو لمدّه بدقائق إضافيّة في محلّ تجاري في بيروت) سحب معلومات منه أو زرع فيروسات فيه. ويمكن السيطرة على رقاقة الهاتف عبر إشارة الهاتف. وبرنامج الـ«بلوتوث» أرض خصبة للاستغلال المعادي.

بدلاً من التركيز على تفوّق العدوّ يمكن التركيز على استسهال مِن قِبل أعدائه. هل قرأ المعنيّون مثلاً ما صدر عن تسريبات إدوارد سنودن؟ أخبرَنا أنّ أجهزة الاستخبارات تستطيع أن تجعل مِن التلفزيون الذكي في منزلك (ولو كان مُطفأً) جاسوساً ضدّك وتسيطر على الكاميرا والميكروفون فيه. لو كانت الثقافة الإلكترونيّة التجسّسيّة منتشرة لَما احتاج نصرالله أن يتوجّه أثناء الحرب، رغم مسؤوليّاته القيادية الهائلة، بخطاب يدعو فيه عناصر تنظيمه إلى رمْي الهواتف بعيداً من الميدان.

(يتبع)

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة