آخر الأخبار

مشكلتان لا واحدة!

1 (1)

سعد الله مزرعاني

أخيراً، آن أوان وضع حد للشكل الإبادي الإجرامي الهمجي لمواصلة حرب غزة من قبل الحكومة الفاشية الإسرائيلية بقيادة نتنياهو (مع ما يقتضيه ذلك من تحفظات ضرورية). السبب الرئيسي لحصول ذلك، هو الكلفة المعنوية والأخلاقية والسياسية والبشرية والمادية، الباهظة، لاستمرارها على النسق البشع وغير المسبوق الذي تتشارك المسؤولية المباشرة عنه حكومة عصابات القتلة العنصريين في تل أبيب والإدارة الأميركية في عهد الرئيس ترامب خصوصاً.

كتب اللواء احتياط في الجيش الإسرائيلي إسحاق بريك في جريدة «معاريف»، رداً على قول نتنياهو إن إسرائيل غيّرت وجه الشرق الأوسط إلى الأفضل: «الواقع أن الشرق الأوسط يتغير بسرعة ضد إسرائيل، وكذلك العالم كله»! قد ينطوي هذا التقدير على مبالغة ما (راهناً) بشأن الشرق الأوسط، بسبب إمعان حكام المنطقة من وكلاء واشنطن، في توطيد سياسات الالتحاق بالركب الأميركي، وبمضاعفة سياسات القمع والتهديد به ضد أدنى معارضة لارتباطاتهم ومواقفهم. لكنه صحيح تماماً، بالنسبة إلى العالم، كل العالم، بما في ذلك أكثر الدول دعماً للعدو منذ «وعد بلفور» البريطاني إلى وعد «صفقة القرن» الأميركي الترامبي!

الواقع، وليس الوهم أو التمنّيات، هو ما يقرّر أن آلام وتضحيات وبطولات المقاومة والشعب الفلسطينيين (في غزة خصوصاً) بعد مرور سنتين على حرب «طوفان الأقصى» والرد الأطلسي الصهيوني بحرب الإبادة بـ«إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط»، لم تذهب هدراً!
في نطاق هذه المعادلة، كانت «خطة ترامب» الحالية. وهي خطة لم تكن لتطرح، كما جرت العادة، وبعد تأجيل ومماطلة وتهديدات وكسب للوقت… لو لم يعجز العدو عن تحقيق بنود أساسية من أهدافه.

عجزُ نتنياهو وهوسه وذعره من خسارة السلطة، وبالتالي المحاكمة والمحاسبة والعقاب، جعلته لا يعبأ بردود الفعل المنددة بهمجيته وبتعاظم عزلة تل أبيب وواشنطن الشريكة الكبرى في الإبادة، على نحو غير مسبوق. تحت وطأة هذين العامين: العجز والعزلة الدولية، كان لا بد من إنقاذ إسرائيل من فشل نتنياهو، وإنقاذ نتنياهو، الأرعن والمهووس، من نفسه أيضاً! إلى ذلك، فمن المعتاد أنه حاولت واشنطن دوماً، عبر لعبة «الوساطة»، تمكين العدو من أن يحقق بالمفاوضات الكثير مما عجز عن تحقيقه في الساحات. آخر الأمثلة ما حصل ويحصل عبر اتفاق «وقف الأعمال العدائية» بين لبنان والمقاومة، من جهة، والعدو الصهيوني، من جهة ثانية (27/11/2024).

جرى التوقيع على المرحلة الأولى من«خطة ترامب». التفاوض متكافئ. الإجراءات كذلك إلى حد بعيد: لجهة تبادل الأسرى (وليس تحريرهم بالقوة أو بالمزيد منها كما ردّد نتنياهو). كذلك لجهة وقف إطلاق النار الشامل، وبرمجة الانسحاب الكامل وإدخال المساعدات. بالتأكيد، الفضل الأول في ذلك يعود إلى الصمود الفلسطيني المذهل وغير المسبوق من قبل المقاومين والمواطنين: رغم الآلام والمجازر والدمار والحصار والتجويع…. لقد حوّل الصمود والمقاومة حرب الإبادة والتدمير والتهجير من أداة إكراه وفرض واستسلام، إلى النقيض حيث عمّت المظاهرات المليونية معظم مدن العالم: منددة بالوحشية الصهيونية، وبأكاذيب وإجرام واشنطن زعيمة «العالم الحر» ومزاعمها بشأن «حق الدفاع عن النفس» وبشأن «الإرهاب» ومزاعم الانتصار لحقوق الإنسان وللحريات والديموقراطية.

وفيما تلوح نهايات حرب غزة للأسباب التي ذكرنا أهمها، يعاني لبنان (وهو المدرج أيضاً على خارطة إسرائيل التوراتية) من محاولة تسجيل «انتصار كامل» للعدو الصهيوني، على حساب سيادته ووحدته الوطنية وعمرانه ودماء مواطنيه، بشكل وقح وصريح. تلعب واشنطن الدور المحوري في هذا الصدد. وهي تجنّد وكيلها الأكبر في المنطقة، النظام السعودي، في عملية ممارسة ضغوط قصوى ضد المقاومة وانتقاماً منها ومن كل مقاومة في لبنان، تحت عنوان «حصر السلاح».

في لقاء مع «الجديد» الأسبوع الماضي، وقبيل جلسة مجلس الوزراء المخصصة للاستماع إلى قائد الجيش ونقاش بند إضاءة «صخرة الروشة»، تحدث وزير الثقافة غسان سلامة بكثير من العقلانية والموضوعية عن موضوع «تظاهرة الصخرة». طالب بضرورة عدم المبالغة، وبوضع الحدث في مكانه الطبيعي. وهو استمر في استخدام هذا النسق في مقاربة عناوين أخرى. لكن الأمر تغيَّر تماماً عندما وصل إلى موضوع «حصر السلاح».

هنا «بيت قصيد» الحكومة الحالية خصوصاً. لا ربط ولا علاقة بين «حصر السلاح» واستمرار العدوان الإسرائيلي المتمادي على لبنان، منذ 27 تشرين الثاني الماضي إلى اليوم؟ «حصر السلاح» شأن داخلي. أكَّد الوزير ذو الخبرة الواسعة في شؤون النزاعات في المنطقة! هذا هو أساساً جوهر المطلب الأميركي والإسرائيلي الذي تروج له واشنطن و«الحضن العربي»! تناست واشنطن أنها هي التي أطلقت في حينه، وعبر الرئيس بايدن شخصياً، مشروع اتفاق «وقف الأعمال العدائية».

وافق لبنان الرسمي دون قيد أو شرط «فالعين لا تعلو على الحاجب»! وافقت المقاومة أيضاً نظراً إلى توازن الصيغة المعلنة. تولّت واشنطن الوساطة (كالعادة!)، ترأست أيضاً لجنة المراقبة. التزمت المقاومة بالتنفذ الكامل ولا تزال منذ حوالى عشرة أشهر. أمّا العدو، فقد تابع المعركة من طرف واحد! السبب أن أميركا أبرمت اتفاقاً جانبياً مع تل أبيب يتيح استمرارها في الحرب من طرف واحد! إلى ذلك، قادت واشنطن وأدواتها المحليون و«العربان» حملة شاملة لفرض هزيمة على المقاومة أو إشعال فتنة داخلية إذا امتنعت المقاومة عن تلبية المطلب الأميركي الإسرائيلي.

هنا جاء قرار «حصر السلاح» من قبل السلطة التي نصبت بضغط أميركي، ليطلق أزمة داخلية خطيرة ومفتعلة. هكذا بدل أن يتوحد لبنان، سلطة ومقاومة وشعباً، ضد المحتل الإسرائيلي، بات أمام مشكلتين: داخلية، مع السلطة والفريق المتعاون تاريخياً مع إسرائيل، وخارجية مع واشنطن وحلفائها الإقليميين والعدو المحتل!

نزع السلاح في ظروف استمرار الاحتلال خطيئة لا مجرد خطأ! لا يمكن تهنئة حكومة الرئيس نواف سلام على هذا الخيار الخطير والانتحاري، وعلى المضي فيه رغم ما ينطوي عليه من مخاطر وفتن. لبنان الذي كان عنوان صمود ومواجهة، بات الآن، في ظل الحكومة الحالية، مضرب مثل في الخنوع والامتثال والتفريط: تمثلوا بغزة في الثبات والتمسك بالحقوق وبالكرامة.
* كاتب وسياسي لبناني

شارك على :

واتس أب
فيسبوك
تويتر
تيليغرام
لينكد إن
بين تريست
الأيميل
طباعة